Atwasat

"إسعاف.. إسعاف"

محمد عقيلة العمامي الثلاثاء 02 فبراير 2016, 10:22 صباحا
محمد عقيلة العمامي

فقدتُ الود الذي اعتدته مع سائقي تاكسي قاهرة ذلك الزمن الجميل، لم أعد أجد تلك الألفة والمودة التي كانت تتخلق معهم أثناء مشوارنا، مهما كان قصيرا، فقدته مرتين: المرة الأولى بعد انفتاح السبعينيات، والجشع الذي صاحبه، والثانية هذه الأيام بعدما تعمد الكثير منهم إخطاري بمجرد أن تنطلق السيارة، أن العداد عاطل!، وغالبا ما تفشل محاولتي في نهاية المشوار بالتسوية المرجوة للأُجرة، فينتهي الأمر بتكشيرة، وأحيانا بشتيمة.

كنتُ عند ناصية شارع البطل أحمد عبد العزيز بشارع جامعة الدول العربية، أتربص بتاكسي يأخذني إلى وسط البلد، عندما وقف أمامي ميكروباص مشيرا سائقه بكفه الأيمن الذي رفع سبّابته إلى أعلى يلويها في حركة دائرية قائلا: "إسعاف.. إسعاف".

لقد سبق وانتبهت إلى أن الكثيرين من سائقي الميكرو باصات يقومون بحركة الكف هذه، ولكنني لم أعرف، حينها، ماذا تعني، ولا أين وجهة هذا الإسعاف. ولأنني لم أكن مستعجلا ركبت دون تردد، فاليوم سبت وحركة المرور رائقة، وأنا غالبا ما أذهب إلى وسط البلد يوم السبت لابتياع ما أحتاجه من هناك.

انطلقت الحافلة عبر كوبري 15 مايو. وقفتْ عند سلم أبو الفداء، ثم عند ناصية سلم أبو العلاء، ثم واصلت مسيرتها عبر شارع بولاق، لتقف عند سور القنصلية الإيطالية فنزلت. عبرت الكوبري نحو شارع 26 يوليو، أمامي دار القضاء العالي، وعلى يساري صيدلية الإسعاف. عندها عرفت من أين جاء أسم المحطة.

وبغتة انتبهت إلى أن الإشارة التي يقوم بها السائق وهو يعلن: "إسعاف.. إسعاف" تشير إلى ذلك الضوء المتقطع، الذي يدور منبها، مصاحبا لزمارة سيارة الإسعاف.

الميكروباص مشروع خدمي وسيلة أكل عيش ركوبة هو بالتحديد اختلاطك بفئات الشعب المصري العظيم كافة فهو عالم متحرك من سيدات وسادة كادحين بسطاء

منذ ذلك اليوم صار الميكروباص وسيلة تنقلاتي في القاهرة، ومنذ ذلك اليوم صرت أعرف الإشارات التي ترمز إلى مختلف المناطق: تلك المحددة للجيزة، والأخرى للتجمع الأول، والثالثة لرابعة. صرت أستمتع بأحاديث الركاب وقفشاتهم، ومصطلحات الوقوف: "معاك السلم يا اسطى" وطلب السائق لأجرته: "اللي ما بعثش يبعث"، وتظل سخريتهم من معاناتهم تعكس قوة الإنسان المصري وصلابته وعزة نفسه.

قلّتْ كثيرا مصاريف تنقلاتي، وتخلصت نهائيا من مشاحنات وازدراء سائقي تاكسي القاهرة المعطلة عداداتها.

يقف المرء في شوارع مرور هذه الحافلات، ينظر يسارا، يترقب مرور الحافلة، غالبا ما تهديء سرعتها. قد يعلن السائق عن وجهته، ولكنه يواصل سيره إن كان كامل العدد، أو يكون موعد (كباية الشاي) قد حان موعدها. قد يقرأ قفشة، أو حكمة مكتوبة بخط جميل على مقدمة العربة، وإن كان ما يُكتب على خلفيتها أكثر مما يكتب على مقدمتها. في الصباح يكون القرآن الكريم هو السائد. من الظهر حتى المغرب تلعلع الأغاني الشعبية المُعدة على النغم أكثر من الكلمة. بعد المغرب تسود أم كلثوم.

ما يُكتب على هذه الحافلات مثير، مضحك، وعجيب، بمقدور المهتم أن يؤسس لدراسة اجتماعية مُتخذا مما يكتب عناوين لبحثه وإن كانت السخرية هي السائدة: "حتى هدف حياتي تسلُل" أو "الراجل من غير ست زي النايل سات من غير نت" وقد تكون السخرية أحيانا مفارقة: "شامبو يشيل القشرة وصاحب يخون العشرة" وقد تكون تقريرا عن واقع حال:"حد معاه حاجة يا شباب قبل الكمين؟".

أو قد يشكو من ظلم الناس:"لما بقيت عصفور كلوني، ولما بقيت أسد صاحبوني" وهو لا يعلم أن عصفورا واحدا يلتهم مئة حبة لب في 25 دقيقة، ويخاف على عربته:"ربنا يحميكي من أيد الميكانيكي".

ولكن أغرب ما قرأت على ميكروباص هو الآية القرآنية التالية: "وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ" صدق الله العظيم. إنه بالفعل انتقاء عجيب، فالسائق يستنجد بالقرآن ليبعد عنه أعين المسئولين عن حماية الطريق والناس؛ فهو يُعلن عن وجهته بالنداء وبالمنبه والإشارات، ولكنه لا يريد لفئة معينة أن تراه، وهكذا كما يبدو يريد أنه ينوى خرق القانون ويريد الله أن يساعده في ذلك!، إنه أخطر من الثاني الذي كتب على حافلته:"يا حنان يا منان أكفينا شر اللجان"، فهو على الأقل يريد من الله أن يحميه من أشرار اللجان وليس كل اللجان، بينما الذي استنجد بالآية يريد ألاّ يراه أحد على الإطلاق، ولو استجاب له الله لصار يتنقل في القاهرة من دون راكب واحد!.

الميكروباص مشروع خدمي، وسيلة أكل عيش، ركوبة هو بالتحديد اختلاطك بفئات الشعب المصري العظيم كافة، فهو عالم متحرك من سيدات وسادة كادحين، بسطاء، عشريين قد تجد بينهم المهندس، والشاعر، والكاتب والطبيب.

تربطني علاقات صداقة، تواصلت لسنوات طويلة مع مُعظم العاملين بمستشفى السلام. ذات يوم ركبت من أمام جامع مصطفى محمود. لم أنتبه إلى الشاب الذي جلست بجانبه. وفيما كنت أبحث، في جيبي، عن جنيه وربع وهي قيمة الأجرة، سمعت من يقول بخفوت: "دا أنت طلعت زينا. لا مليونير ولا حاجه".

التفت كان صديقي إسحاق أحد ممرضي قسم الطواريء، صافحته ضاحكا وأشرت إلى ركاب الحافلة وقلت له: "المليونيرات هم هؤلاء. مليونيرات القناعة والصبر وخفة الدم. والدفء". واصل الميكروباص سيره، فيما استمر السائق يعلن للناس: "إسعاف .. إسعاف".