Atwasat

ركن العامرية.. ليالي الأنس في فيينا

فدوى بن عامر الإثنين 01 فبراير 2016, 08:47 صباحا
فدوى بن عامر

ما أروع ليالي الأنس في العاصمة النمساوية، فيينا الرومانسية، المدينة الرائقة الراقية بأبنيتها الفاخرة ومعمارها الباهر وحدائقها الزاهرة، ومما يزيد في النفس صفاء وسكينة، مراقبة سمائها من على ضفاف نهر الدانوب العابر لعشر دول أوروبية، أولها غرباً المانيا حيثُ منبعه وحتى مصبه شرقاً في البحر الأسود. إنها المدينة التاريخية التي استعصى على العثمانيين فتحها أو بالأحرى اقتحامها.

تختلف ليالي الأنس في فيينا اختلافاً كبيراً عنها في ليبيا، وربما لذلك لم تتغن المرحومة أسمهان بليالي أنسنا الليبية. فهي لم تشاهد الحوار الفذ الذي تابعته من سنين غابرة على المحطة الليبية، عندما قال أحدهم "نحن نهتم بالتخطيط الجيد لمدينة طرابلس، فمثلاً عند بناء المسارح نأخذ بالاعتبار التخطيط لبناء مرائب لإيواء سيارات مرتدي المسارح!".

عندها امتقع وجه مقدم البرنامج بعد أن انفجر رأسه من وقع النكتة، وبفضل مهندس المرائب داومتُ على حيازة المرتبة الأولى في كل المسابقات العالمية للنكات.

لا أدري إن كانت المسارح في فيينا لها مرائب أم لا، ولكنني تعرفتُ على بعض لياليها الفنية العريقة، كالتي تحييها دار الأوبرا في فيينا أو"موزيك فراهاين"- جمعية الموسيقى النمساوية- حيثُ يأخذك عبق التاريخ لأحضان القاعة الذهبية التي اُفتتحت عام 1870م، والتي تُعتبر من أقدم وأفخم المباني للموسيقى الكلاسيكية. اللافت أن القاعة مرفوعة على رؤوس نساء فاتنات على هيئة أعمدة ذهبية، يطلّ عليهن أبولو إله الموسيقى والشعر محدقاً بهن من سماء القاعة، وما إن تبدأ فرقة فياهارمونيكا، أشهر فرق النمسا، بعزف ألحان استراوس وموتزارت الشهيرة حتى يحلِّق بك الانتشاء إلى عنان السماء، وبمراقبة أعضاء الفرقة بلباسهم التقليدي وشعرهم المستعار فإنك تعيش الماضي التليد بكل تفاصيله.

عندما تذكرت أحد مقاهي طرابلس همس لي أبولو ساخراً إن الشعب الذي يضرم النار في قلبه بيده لا يعاب عليه حرق المقاهي

لوحة متكاملة جعلت ليلتي أنس وأنس وعندها لمحتُ أمبراطورة النمسا سيسي، المتوفية عام 1898م بعد أن طعنها إيطالي عند زيارتها لمدينة جنيف السويسرية، والمشهورة بجمالها الأخّاذ وشعرها البالغ ركبتيها والمرصع بمشابك ورد ماسية صغيرة تسمى وردة سيسي، والمعروضة بجناحها في القصر الملكي بهامبرج، رأيتها جالسة تتمايل مع الألحان وأبولو، على غير استحياء، يختلس النظرات.

أما مدرسة الفروسية الملكية التي تجاوز عمرها الأربعمائة عام فتمثل نهارات الأنس يا فيينا، بتمايل خيلها المتهادن مع براعة الخيالة ولن أسأل أين خيلنا وخيّلاتنا وخيالنا أيضاً، طيلة الأربعمائة عام الماضية والأربعائة التي قبلها والأربعمائة المقبلة. ربما كنّا ولازلنا رقوداً نتقلب ذات اليمين وذات الشمال وفي ذات المكان.

للمقاهي في فيينا تجربة فريدة، فلمذاق القهوة التركية طعم خاص وقصة ظريفة، فقد كانت إحدى مخلفات جند العثمانيين عند هزيمتهم في اقتحام المدينة. أما الأرضية الخشبية العتيقة والطاولات المرمرية المميزة فكل يحكي حكاية مئات السنون. وعندما تذكرتُ أحد مقاهي طرابلس، همس لي أبولو ساخراً إن الشعب الذي يضرم النار في قلبه بيده لا يُعاب عليه حرق المقاهي.

في ليلة متوهجة وبينما كنتُ اترنم بليالي الأنس يا فيينا متلمسة مشبك وردة سيسي البلاستيكي في شعري، تلفتُ ورفيقي هنا وهناك فما لمحنا إلا الضوء الأحمر، ومن المكان المخصص للمشاة عبرنا الطريق إلى الجانب الآخر، وفجأة انشقت الأرض عن شرطيين طويلين مليحيين، بيض الوجوه زرق العيون إلا أنهما لم يكونا "مملحين" بالمعنى الليبي للكلمة، وأمطرانا بالأسئلة والجميل أنهما أرجعانا بالزمن وكأننا طلبة ثانوية قد هربا لتوهما من المدرسة!.

سرعان ما اكتشفا أننا من تلكم البلاد البعيدة المشهورة بلياليها الملتهبة فقد استمعنا لأسمهان الليبية وهي تغني برومانسية ليبية "بت الليل و نارك في كنيني والعة"، ونظرا إلينا نظرة عرفنا منها مكانة بلادنا وبنبرة منصفة جداً وإن ظهرت تهكمية، قال أحدهما"أعلم أنكما لا تحترمان القانون في بلدكما أما هنا فالسيادة له، اللون الأحمر بأنواعه يعني قف وهذا ما يفعله الإنسان المتحضر ولأننا كذلك سنترككما بدون عقاب هذه المرة".

وبانفطار الفؤاد ونحيبه كان الشكر الهزيل وبابتسامة مهزولة كان الاختفاء السريع، قبل أن نجد أنفسنا نتغنى معاً بليالي الأنس في بيت خالتنا النمساوية.