Atwasat

عطاء الله وناقة الأمير

محمد عقيلة العمامي الأربعاء 25 نوفمبر 2015, 03:24 مساء
محمد عقيلة العمامي

مأخوذ أنا بالجمل، أرى فيه كبرياء طبيعي غير متصنع، وقد أصر صديق يمتلك عددا من النوق، أن يعالج ضعفا عند أحد أبنائي (بكورس) حليب يشرب يوميا مباشرة من ضرع الناقة. كان يأخذني يوميا رفقة أطفالي ليشرب كل منهم لترا كاملا، وقد شاركتهم في هذا البرنامج الذي استمر أربعون يوما، والحقيقة كانت النتائج باهرة، أو هكذا خيل لي.

خلال برنامج الحليب هذا الذي يستغرق حوالي ساعة يوميا، أظل أحوم حول الناقة، مأخوذا ومستغربا من تكوينها، متذكرا بخشوع قول الله عّز وجل، في سورة الغاشية: "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت". صدق الله العظيم؛ فبقدر ما عيناها رائعتان، فتكوينها أعجب، على الرغم من بعده عن الجمال. وزنها حوالي 500 كيلوجرام يتركز في وسطها، عنقها طويل ترفعه قوائم طويلة، حدباء ببطن كالبرميل.

شفتان سميكتان متدليتان تمدهما لالتقاط أي عشب مهما كانت حدة أشواكه لا يمكن أن تخترق هذا اللسان، الذي لا يخرج من فمها أبدا حتى لا يفقد أي جزء من رطوبة جسمها. يتناسب تكوينها تماما مع تضاريس وطبيعة الصحارى القاحلة، التي تشكل سدس مساحة العالم، هذا التناسب الذي يجعله أفضل وسيلة للنقل في بحور الرمال الا متناهية، بسبب الخف متقن الخلق يمكنه من عبور الرمال أكثر مما تفعله الطاويات الحديثة، التي تستعصي أحيانا إلى عبور الكثير من المناطق، ولأهميتها وفاعليتها يسميها بدو شبه الجزيرة العربية "عطاء الله".

للجمل مكانة مرموقة منذ أقدم العصور، ولقد غير بالفعل مجرى التاريخ، فبعبوره في القرن الرابع الميلادي وادي النيل قادما من الصحراء العربية إلى شمال أفريقيا

والجمال هي وسيلة جيش الهند الرئيسية في صحراء راجستان، إذ انه يعتمد عليها أكثر مما يعتمد على سيارات النقل في الصحراء، ولقد وظفها الرئيس الأمريكي جيفرسون سنة 1855 كوسائل نقل ما بين معسكرات الجيش الأمريكي في تكساس وسواحل المحيط الهادي عندما استورد 30 جملا من مصر، ونجحت بالفعل في مهمتها ولكن لم يستوردوا المزيد منها فلقد امتدت السكة الحديدية، ولأهمية الجمال صار لباكستان أكثر من مليون ونصف جمل وهو ضعف ما كان لديها منذ ثلاثين عاما. ويبلغ عدد الجمال في العالم حوالي 20 مليون.

وللجمل مكانة مرموقة منذ أقدم العصور، ولقد غير بالفعل مجرى التاريخ، فبعبوره في القرن الرابع الميلادي وادي النيل قادما من الصحراء العربية إلى شمال أفريقيا، استطاع الإنسان أن يعبر به الصحراء الكبرى، فتواصلت أفريقيا السوداء مع أوروبا بسبب هذه الجمال وانتظمت تجارة قوافل الجمال ما بين مالي والنيجر، حتى شاطيء البحر الأبيض، لتتولى السفن بقية الرحلة نحو البندقية وجنوب فرنسا. كل ذلك سببه قدرته العجيبة، على العيش لأشهر من دون حاجة إلى الماء، فبسبب قدرته الفائقة على شرب كميات كبيرة منه، وأيضا خاصية ينفرد بها عن سائر الحيوانات، وهي قدرة تكوينه على إعادة تمرير مقدار كبير من بوله عبر الكبد فيصنع منه بروتين جديد، يوفر له مخزونا من الغذاء والماء، في حين أن الحيوانات الأخرى إن لم تتمكن التبول تتسمم وتنفق، أما السنام فهو يشكل خمس وزنه، وهو مكان يتجمع فيه شحمه، فيصير كمخزن لغذائه، ويعيش منه أشهرا. ولكن الجمل إن جاع يأكل كل شيء، بما في ذلك قش السقف أو لوح بلاستك، أو حتى سلك معدن، ويدور ما يأكله في أربع حجرات تستخلص الغذاء من أشياء لا تخطر على بال الشيطان نفسه.

ولعل ما كتبته من قبل عن حالة انتقيتها من كتاب عنوانه "تجوال الحوت"، وهو مجموعة قصص عن تجارب طبيب بيطري اسمه "ديفيد س. تايلور" صدر سنة 1984، يؤكد عادة الجمل بالتهام أي شيء إن جاع.

تقول قصة ساخرة حدثت له في قطر عنوانها "ناقة الأمير"، وهي التي كانت أثيرة عنده، وقد أصابها إمساك شديد لدرجة اُعلنت معها حالة الطواري القصوى! فالناقة امتنعت سبعة أيام عن الطعام والماء، وبقى الروث داخل امعائها ولم تخرج منها ضرطة واحدة تخفف من أزمتها، فبعث الراعي العجوز يخبر الدوحة أن ناقة الأمير الأثيرة مريضة جدا، فبعثوا له بطبيب انجليزي كان قد استُدعي من بريطانيا العظمي للكشف على صقور القصر.
وبعدما وصلت القافلة البيطرية إلى مرعى الناقة، وفيما كان الطبيب يفحصها من عند مؤخرتها اطلقت عليه مباشرة ريحا سقط على إثره مغشيا عليه!، ولم يفق إلاّ قبيل العصر. قال للمتحلقين حوله: "هناك انسداد واضح في مصارين الناقة، فالغاز السام الذي خدرني تخمر كثيرا نتيجة هذا الانسداد، والعلاج عملية سريعة".

ما يقوله الناس: أن (الزعزاعة) المرعبة التي وصلت بلادنا، بعد واحد وأربعين سنة، أساسها ضراط ناقة أمير قطر

وما أن ترجم المترجم ما قاله الطبيب حتى صاح المتحلقين كلهم: "أوووه .. عملية لناقة الأمير قد تفقدنا رؤوسنا لو حدث لها مكروه ... أوووه .. ورطة"، ولكن الطبيب شرع من دون أن يعرف ما قاله البدو، في تهيئة الناقة، خصوصا بعدما قال الطبيب القطري المساعد العائد مؤخرا من بريطانيا "من حسن الحظ أنك يا دكتور في قطر، فالأمير بالتأكيد لا يريد أن تنفق الناقة، كما أنه لا يسمح بذلك أبدا"، وفي فجر اليوم هيئت الناقة لشق معدتها التي لا يمكن الوصول إليها إلاّ من جانبها الأيسر. جزارو النوق الليبيون يعرفون ذلك جيدا.

وكان حوالي ستة وعشرون رجلا متحلقين حول الناقة الغائبة عن الوعي، والطبيب يفتح بطنها كانت وجوههم قاتمة، فوقها الكوفيات وتحتها الثياب الصوفية الأفغانية ورائحة العرق والتوابل والبصل، وتنوعت الغمغمات بالباشتون والأوردية والعربية والفارسية. وادخل الطبيب يده في تجويف فتحة المعدة وتحسس أجساما صلبة كالحجارة بحجم البرتقالة، وقال: "لقد عرفت المشكلة. إنها اجسام غريبة لكنني أجد صعوبة في انتزاعها، وما أن سمع المتحلقون ترجمة ما قاله الطبيب حتى دخلت عشرة أيادي سمراء موضع فتحة الجرح.

فصرخ الطبيب: "أحرجوا أيديكم أيها المغفلون، فلا نريد عدوى لمعدة الناقة من أيديكم القذرة". فسحبوا أيديهم، واخرج الطبيب الكور الصلبة التي كانت متصلة بحبل متين وكان عددها أربع وخمسون كرة، وانتهت العملية وخيط الطبيب الجرح. كانت الكور عبارة عن وبرها وأيضا وبر الأبل الأخرى الذي تلعقه الناقة، مثلما تفعل القطط عندما تسترخي في الظل. وقد التف حبل من الحبال التي كانت تحزم أكياس العلف، على وبر الناقة القطرية وبمرور السنين تكور، وتصلب وألتف حوله حبل البلاستك المستورد، وتشكل العقد الذي سد منافس الناقة.

يقول الطبيب في اليوم التالي تحسنت حالة الناقه، وتكرعت ثم خرجت منها ريح أهاجت رمال الجزيرة العربية كافة، ويقال أنها وصلت سواحل الهند والسند وكازخستان. ولكن ما يقوله الناس: أن (الزعزاعة) المرعبة التي وصلت بلادنا، بعد واحد وأربعين سنة، أساسها ضراط ناقة أمير قطر!.