Atwasat

طاولة الوطن ونَرْدُ القبيلة

سالم العوكلي الأحد 02 أغسطس 2015, 09:10 صباحا
سالم العوكلي

بعد نجاح انقلاب أول سبتمبر، اقترح القذافي على أعضاء مجلس قيادة الثورة، حقن القوات المسلحة بأقاربهم من العشائر والقبائل من أجل زيادة نفوذ الثورة في هذه المؤسسة الحساسة، وبعدها بفترة سمع أن عضو المجلس امحمد المقريف قد طعم القوات المسلحة بأكثر من أربعين شخصا من قبيلته، فاستدعاه، وقال له، بظاهر من مزاحه المعهود الذي لا يخلو من جدية تتبعها إجراءات تحوطية: هل تخطط لانقلاب يا امحمد؟.

كان المقريف من الشخصيات القوية التي تزاحم القذافي في نفوذه على المجلس، ولم تمض فترة تُذكر حتى لقي مصرعه في حادث سير. في تلك الفترة كان القذافي يميل إلى فكرة الولاء الثوري أكثر من القبيلي، وحقن الجيش والكليات العسكرية بالكثيرين من التنظيم المدني ومن أصدقائه الموثوق بهم ممن يدرسون في كليات مدنية.

"كان القذافي... لا يخفي نظرياً استهجانه للقبيلة في السنوات الأولى من حكمه"

حين تم تصعيد إبراهيم بكار، عميد بلدية بنغازي سابقا، أمينا للجنة الشعبية للعدل، وبالإجماع، في إحدى جلسات المؤتمر الشعبي العام، حيث كان يتمتع بشعبية كبيرة، خصوصا في الشرق، بعدما أنجزه من تطوير ملحوظ لمدينة بنغازي، وفي أول لقاء للقذافي ببكار بعد ذلك التصعيد خاطبه قائلا: أهلا زعيم برقة. في طريق عودة بكار من اجتماع وزراء العدل العرب في تونس تعرض لحادث سير قضى على إثره.

يذكر السيد عبدالرحمن شلقم في كتابه، رجال حول القذافي، أن معمر في بداية الانقلاب كان يستخدم لقب بومنيار فقط، وبإلحاح من قريبه خليفه حنيش اعتمد اسمه الجديد: معمر القذافي، خليفة حنيش العسكري شبه الأمي الذي ترقى بسرعة في المناصب والنفوذ (بما يشبه شبه الأميين الذين ترقوا وأصبحوا بسرعة في واجهة ثورة فبراير) أصبح حنيش فيما بعد مهندس التحالفات القبلية التي يلعب بها القذافي على نطاق ليبيا كلها.

كان القذافي الذي صاهر مبكرا قبيلة البراعصة ذات النفوذ إبان العهد الملكي، لا يخفي نظرياً استهجانه للقبيلة في السنوات الأولى من حكمه، للدرجة التي اعتبر القبلية مثل التحزب نوعا من الخيانة، وكان إلى حد كبير متسقا مع طبيعته وطموحاته وجنونه في ما بعد، فهو لم يكن يعترف حتى بكيان اسمه ليبيا ليعترف بالقبيلة، وكانت ليبيا مجرد مكان غني بالثروات يضمن له الدعم اللوجستي في طريقه للعالمية، وبذا أدخل ليبيا في فضاءات قومية أوأممية وإقليمية متعددة ومتغيرة حسب الظروف الدولية ووفق ما يتعرض له من ضغوط.

في أحد خطاباته تحدث عن سرت وإجدابيا كمدينتين لا مقومات حيوية لوجودهما، بل ودعا إلى إلغائهما من على الخارطة، وفي تلك الفترة لم يكن القذافي قذافياً، بل كان يشكل حاشيته من المخلصين له من كل القبائل الليبية، وكان موظفوه طيلة هذه الفترة من صنفين، صنف الولاء الأعمى الذي يمثله التيار الثوري المكون من كل الشرائح الاجتماعية الليبية، وصنف من النخبة الليبية أو من التكنوقراط، الذين يمثلون قبائل وأقاليم مختلفة من ليبيا، وبمراجعة تاريخ الحكومات سنجد أن التغيير المستمر في هذه الحكومات كان يوازن بين الجناح الثوري، والعسكري، والتكنوقراط، وأيضا حسب المتغيرات الدولية والمحلية. وثمة أسماء يعرفها الليبيون جيدا من التكنوقراط بقيت لأكثر من ثلاثة عقود في المناصب العليا وفق تغيير مناصبها لكنها لم تختف إطلاقا.

ظل القذافي لعقدين يهاجم القبلية والقبيلة إلى أن دَوَّنَ هذه النظرة إلى القبيلة في نظريته العالمية الثالثة، كان هذا على المستوى النظري، غير أنه في الواقع كان العمل على عقد التحالفات القبلية على أشده عن طريق مستشاريه في هذا الشأن، وعلى رأسهم خليفة حنيش وعمر اشكال، وكانت مبايعاته قائدا أبديا ووليا للأمر عبر ممثلي القبائل طريقته المقترحة في الحصول على الشرعية، ومن ثم عقيدة طاعة ولي الأمر الذي تتم مبايعته حسب مقتضى الشريعة بعد أن علق لافتته الشهيرة "القرآن شريعة المجتمع".

بعد الغارة الأمريكية قاد القذافي انقلابا شاملا على نفسه، واتخذ مسارات مختلفة، من ضمنها العمل على المصالحة مع خصوم الأمس الذي انتهى بإطلاق سراح الكثيرين من سجناء الرأي، وبإتاحة هامش للتعبير، بدأ بما يقال في المؤتمرات الشعبية الأساسية، مرورا بتركيزه في أكثر من حديث على حرية التعبير والتي يذكر الليبيون مقولته من لا يجد مكانا يكتب فيه فليكتب رأيه على الساس (الجدار)، بل اقترح ساحة لحرية التعبير تشبه ساحة هايد بارك بلندن، وصولا إلى تأسيسه لمجلة (لا) غير الخاضعة للرقابة عبر دعوته لثلاثة تيارات لتأسيسها، التيار الثوري واليسار الخارج من السجن، والليبرالي القادم من المنفى الاختياري، كما بدأت محاولات التفاوض مع المعارضين في الخارج والتي وصلت ذروتها عن طريق الإبن سيف الإسلام ضمن مشروعه ليبيا الغد.

"لم يكن للقبيلة حضور سياسي بارز كما في اليمن مثلا"

رغم الأطروحات النظرية السابقة ضد القبلية إلا أنه في بداية التسعينيات بدأت ظاهرة غريبة ومناقضة لهذه الأطروحات، في الصحف التابعة للدولة، وخصوصا صحيفة الشمس، حيث لفت أنظارنا الكثير من المقالات التي تدعو إلى الترابط القبلي وإلى أهمية القبيلة للأمن القومي وإلى طرحها كبديل لمفهوم المجتمع المدني الغربي، وأذكر أن صالح إبراهيم كتب عدة مقالات كقراءة في أهمية القبيلة في التاريخ الإسلامي حيث اعتبر في إحد مقالاته أن علي بن أبي طالب نام في سرير الرسول لأنه ابن عمه. إبان الحصار الذي فرض على ليبيا من قبل مجلس الأمن وبسبب التزام محيطه العربي بهذا الحصار تبرأ القذافي من انتمائه القومي ليطرح الانتماء الإفريقي كبديل استراتيجي، ولتغدو مدينته سرت التي تحدث يوما عن عدم أهليتها كمكان صالح للسكن، مهدَ تأسيس الاتحاد الإفريقي والعاصمة السياسية للبلاد، وكانت التحالفات القبلية التي وصلت إلى قبائل في مصر ودول الخليج والعراق والنيجر وتشاد على أشدها، وكان صفوت الشريف، وزير الإعلام المصري السابق، زائرا تقليديا لباب العزيزية من أجل أن يزود القذافي بشهادة مختومة تثبت أنه من أهل البيت، وهذا ما حصل أخيرا، لكن الشهادة كانت مزورة.

وأمام فشل سعيه في الحصول على وثيقة حقيقية تثبت أن عشيرته تعود إلى سلالة أهل البيت لم يكن أمامه خيار إلا الاتصال بالقبائل الإقريقية وملوكها البدائيين لينصب نفسه في النهاية ملك ملوك إفريقيا، متجاوزا بذلك كل التحالفات القبلية المحلية، التي لم تكن وفق رأي مستشاريه سوى غطاء للشرعية المفقودة أو ضمن تكتيكات أمنية تَحُول في النهاية دون أي تفكير في تنظيمات سياسية بديلة، ولكن في جميع الأحوال لم يكن للقبيلة حضور سياسي بارز كما في اليمن مثلا أو في بعض الدول الإفريقية، وظل الولاء الأيديولوجي الذي ينظمه مكتب الاتصال باللجان الثورية هو حليفه ومصدر ثقته الوحيد طيلة فترة حكمه، وظلت القبيلة تختفي وراء هذا الولاء كتكتيك اجتماعي للاستمرار في الحكم. وخلال هذه الفترة برزت ثنائية مهمة في التلاعب بالولاء القبلي والمناطقي، تمثلت في تراجع نفوذ مصراتة بعد انقلاب المحيشي وصعود نفوذ ورفلة، إلى أن انقلبت المعادلة بعد انقلاب ورفلة قي بداية التسعينيات لتعود مصراتة من جديد إلى الحضن القذافي حتى قيام انتفاضة فبراير، وهي الفترة التي ازدهرت فيها مدينة مصراتة بشكل جلي، ازدهارا يعود إلى إيثار السلطة وإلى ذهنية الاستثمار الذكية الذي يتميز بها معظم أهالي مصراتة.

واستمر الرجال حوله، أو الحلقات المتتابعة حوله ممثلة تقريبا من جميع القبائل المعروفة في ليبيا ومن جميع الأقاليم.

ظلت القبيلة في ليبيا ضمانة السلم الاجتماعي الوحيدة طيلة قرون، وفي غياب الحماية الدستورية والذات المستقلة قانونا والانتماءات النقابية كانت هي الملاذ الوحيد للفرد لحمايته للحصول على حقوقه، ما زاد حضورها ونفوذها الاجتماعي الذي اكتسب ظلا سياسيا وإن لم يصل إلى درجة تسييس القبيلة بمفهومه البنيوي. غير أنها كبنية اجتماعية متجذرة ظلت القبيلة ملاذا اجتماعيا في حالة فقدان الشرعية أو تكتيكا أمنيا للحفاظ على السلطة سواء أكانت سلطة محلية أو خارجية استعمارية، الأمر الذي جعل جماعة الأخوان، الذين كانوا مثل القذافي في بداية حكمه يزدرون القبيلة والقبلية في مداخلاتهم بوسائل الإعلام وبالمؤتمر الوطني السابق، يعودون لهذه الحاضنة الاجتماعية بعد خسارتهم الانتخابات البرلمانية وخسارتهم لمقر البرلمان بعيدا عن سيطرتهم المالية والعسكرية، ومثلما طوّع القذافي القبيلة لمشروعه الأيديولوجي العالمي، استخدم الأخوان القبيلة، أو بالأحرى التناقضات القبلية في المنطقة الغربية، لخدمة أيديولوجيتهم العالمية من أجل التمسك بالسلطة بعد هزيمتهم في الانتخابات البرلمانية ولجنة الستين، وكان السويحلي مهندس هذه التحالفات الجديدة بما يشبه دور خليفة حنيش إبان النظام السابق.

لكن وعبر التاريخ كانت الصراعات القبلية الليبية قابلة للحل السريع عبر العرف وتدخل الحكماء، وانطبق هذا على بعض الصراعات التي حدثت بعد فبراير في الجبل الغربي أو الجنوب الليبي، غير أن مساعي المصالحة، فيما يخص الانقسام الليبي، من قبل الحكماء باءت كلها بالفشل، والسبب يكمن في كون هذا النزاع القبلي مجرد غطاء أو أداة لخدمة أيديولوجيا الإسلام السياسي التي ضُربت أو تراجعت في تونس ومصر ولم يبق لها فضاء يشد من أزرها سوى ليبيا، الأرض الغنية بالنفط، الفقيرة في المؤسسات.

"من المفارقات الغريبة في ليبيا أن تظل القبائل أداة التمسك بالمسار الديمقراطي"

أذكر حين تطرق د. محمود جبريل في برنامج ترشحه لرئاسة الوزراء للقبيلة والمشائخ كأداة إسهام مهمة في المصالحة الوطنية، تعرض لهجوم من بعض الأعضاء من جماعة الأخوان معتبرين إياه رجعيا ويريد أن يعيدنا إلى الخلف، ولكن بمجرد أن أحسوا أن ما توصل إليه برنارد ليون ليس في صالحهم قاطعوه ودعوا للعودة إلى القبيلة والنظام الاجتماعي المحلي من أجل المصالحة.

من المفارقات الغريبة في ليبيا أن تظل القبائل أداة التمسك بالمسار الديمقراطي، ويتضح هذا عبر بيانات الاجتماعات القبلية المتعددة، بينما الأحزاب- كضرورة مفترضة للحياة الديمقراطية- هي أداة الانقلاب على المسار الديمقراطي، ويتضح هذا خصوصا في نهج حزب العدالة والبناء.

عموما المقارنات تبدأ ولا تنتهي بين جماعة الأخوان وبين القذافي وجماعته، وهي تماهيات ترجع لطبيعة الأصل الواحد للفاشية، وما أريد أن أوضحه هو التأكيد على مقالة نشرتها في شهر مايو 2011 م في جريدة ميادين أحذر فيها من الفاشية الثالثة التي يؤسس لها جماعة الأخوان في ليبيا، وربما ما حدث في هذه السنوات الأربع الأخيرة يؤكد صحة تلك المحاذير، وإن صحت المفاضلة بين أنواع الفاشيات فإن الفاشية التي تستخدم الدين أداةً لها هي أبشع أنواع الفاشيات.