Atwasat

لزوم ما يلزم

منصور بوشناف السبت 04 يوليو 2015, 10:09 مساء
منصور بوشناف

انتقد المؤرخ وعالم الاجتماع"ابن خلدون" رأي المؤرخ"أبوبكر ابن العربي" في ثورة"الحسين بن علي" الذي قال في كتابة"إن الحسين قتل بسيف جده". فعلى عكس ابن العربي كان ابن خلدون يرى أن الثورة والخروج واجبان إن توفرت العصبية والرسالة للثائر، من أجل وصول الأمير العادل"ومن أعدل من الحسين؟" كما يقول ابن خلدون في رده على"ابن العربي".

"ابن خلدون" برأيه هذا يتناغم مع أطروحاته النظرية التي حوتها مقدمته والتي ناقضتها بعض فصول تاريخه بكل أسف وإن ظل سياق ذلك التاريخ العام نموذجا مدهشا للنظرية والتطبيق على الصعيد المنهجي والمعرفي في ذلك العصر.

كان ابن خلدون يرى أن الثورة والخروج واجبان إن توفرت العصبية والرسالة للثائر

"ابن خلدون" الذي يعتبر أول منظر للتغير الاجتماعي الشامل، لسقوط ونهوض الحضارات والامم، وأسباب وعوامل ذلك السقوط والنهوض، كان داعما نظريا لتلك الثورة التي قادها"الحسين بن علي". وكل ذلك منطقي ومتوقع، وقد لايحتاج المؤرخ حتى لتصريح ابن خلدون هذا كي يعرف موقفه من تلك الثورة، ولكن هل كان موقف ابن خلدون من الثورة مطلقا؟ هل كان مع الخروج على الحاكم بشكل مطلق إن توفرت شروط الثورة التي وضعها؟

ابن خلدون الذي كان شاهدا على انهيار إمبراطورية وعالما بانهيار أخريات"دون نهوض تلك المنهارة حتى بالثورة "، كان ورغم السياق النظري الثوري محافظا ومترددا، في تبرير الثورات والدعوة لها، بل كان محذرا منها ومن فشلها، فلقد كان يرى أن الخروج الفاشل يستوجب معاقبة الخارجين بأقصى العقوبات، وكل ذلك حفاظا على"مسيرة المجتمع وتطوره الطبيعي" للوصول إلى لحظة الخروج التاريخية التي إن سبقناها أو تأخرنا عنها جلبنا الكارثة.

ابن خلدون يقدم"بارادوكس" نظري للخروج على الحاكم والقعود عن ذلك ويتعامل مع البشر كما لو كانوا ظواهر طبيعية تحكمها قوانين الفيزياء والحساب، كل ذلك متوقع من رجل عقل وفكر، أمضى عمره بحثا عن أسباب وعوامل ولحظات التغير الحضاري.

أوجست كونت... قاد العقل السياسي الفرنسي في تلك الفترة للخروج من نفق"الثورة الدائمة"

الفرنسي"اوجست كونت" والذي يعتبره الكثيرون تلميذ"ابن خلدون" ومؤسس"علم الاجتماع" بمعناه الحديث ومؤسس"الفلسفة الوضعية" ومنظر"الثورة الفرنسية الأحدث للخروج من أزمتها ومظاهر فشلها في عصره"يخرج من نظرية"الديناميكا الاجتماعية" أو ضرورة وحتمية التغير والثورة التي هو مبتدعها وصاحبها، إلى نظرية"الاستاتيكا الاجتماعية" كما يسميها وذلك لكبح جماح تلك الثورة ويقدم الفلسفة الوضعية كوصفة طبية لإيقاف نزف تلك الثورة، وخلق التوازن والاستقرار الاجتماعين، وذلك بكبح الطموحات الفردية وإذابة الفرد في المجتمع والسلم بين الطبقات المتصارعة والانتقال بالتفكير من"الخرافي واللاهوتي" إلى"الوضعي أو العلمي"كما يسميه. إنه يدعو وببساطة تامة إلى إيقاف طوفان الثورة.

أوجست كونت الذي ربما لايذكره الآن إلا بعض معلمي علم الاجتماع في جامعاتنا كان، ومعه الكثيرون من المفكرين، مهندس الاستقرار والبناء في فرنسا وأوروبا، ببساطة لأنه قاد العقل السياسي الفرنسي في تلك الفترة للخروج من نفق"الثورة الدائمة" الذي صنع ماكينة إعدام لا تتوقف عن قطع روؤس الجميع، وتجر الشعب من المصانع والمزارع ليعملوا كمصفقين لتنفيذ القتل والتعذيب إخلاصا للثورة!!

"أدونيس" المفكر والشاعر العربي والذي كتب كتابا دفاعا عن الشاعر الروسي المنشق"بوريس باسترناك" صاحب رواية "دكتور زيفاجو" في زمن الاتحاد السوفيتي السيطرة شبه الكاملة لليسار االعرابي على مصطلح وقيم الثورة في ذلك الوقت، نظر للتحول والتغير الاجتماعي وللثورة عبر مسيرة طويلة من الشعر والنثر، وناصر الثورة الإيرانية بحماس شديد"رغم عمة الثورة و جلبابها" وتحفظ على ما يجري في سوريا لهيمنة الطرح الديني المتطرف كما رآه منذ البداية.

ابن خلدون و أوجست كونت وأدونيس،عربيان وفرنسي وغيرهم بالتأكيد الكثير من المفكرين والعلماء، طرحوا آراء هامة جدا في قضية الثورة والتحول والخروج وتميزوا عن غيرهم بهذا التناقض كما يبدو للوهلة الأولى، ولكنه تناقض مع واقع وليس تناقضا في ذواتهم، تناقض حكمته مراحل الثورات وأدواتها، بكل ما فيها من تناقض وانحرافات، تناقض لابد منه لتصحيح المسار ووقف نزيف مجتمعاتهم بعد الثورات وفي أثنائها.

الفرق المهم بين أفكار ابن خلدون وأدونيس وأوجست كونت، أن أفكار الأخير تحولت إلى برامج عمل للبناء والاستقرار، لتظل أفكار ابن خلدون وأدونيس مثارا للدهشة وللعنة أحيانا من أمتهم،"أمة اقرأ".