Atwasat

نزع الصبغة الإنسانية

عمر أبو القاسم الككلي السبت 04 يوليو 2015, 08:46 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

في إحدى سرحاتي وتداعيات أفكاري وتذكراتي، خطرت بذهني واقعة قديمة مررت بها منذ أكثر من ثلاثة عقود. كنا، أنا وقريب لي، نشاهد فلما مما يعرف بأفلام الغرب الأمريكي (الكاوبوي) في إحدى قاعات السينما بطرابلس.

كان هذا القريب عسكريا وكان يقول بأنه قد استقال من الجيش (لكنني أظن أنه انتقل إلى العمل في استخبارات الجيش، أو جهاز أمني شبيه!). حين أُشعلت الأضواء في منتصف الفلم انتبه مرافقي إلى أن الشخص الجالس بجانبه أحد معارفه. كان هذا الشخص كهلا (لعله في الخمسينيات من عمره)، وليس في ريعان شبابه، مثلنا. كان متين البنية وأميل إلى الضخامة وتنم سحنته على تجهم داخلي! بعد أن خرجنا أخبرني رفيقي أن الرجل يشتغل في الاستخبارات العسكرية، وله ولع بمشاهدة الأفلام التي تحوي مشاهد عنف وتعذيب، بهدف إمكانية الاستفادة منها في عمله![بالفعل كان ثمة بالفلم مشاهد تعذيب].
أظن أن رتبة الرجل كانت عريفا أو رئيس عرفاء. لكنَّ هذا موضوع لا يعنينا.

ما يعنينا هنا هو:
ما الذي يدفع شخصا مثل هذا إلى، ليس امتهان وظيفة الجلاد (فقد تكون للرجل ظروفه التي تحول بينه وبين الامتناع عن قبول هذه المهنة التي أسندت إليه)، فحسب، ولكن إلى التفاني فيها ومحاولة تطوير مهاراته وإتقان فنونها؟!
أثبتت عدة دراسات أن نسبة بسيطة جدا من الذين امتهنوا وظيفة الجلاد، أو وضعوا في ظروف حولتهم إلى جلادين، وحتى قتلة، كانوا ممن لديهم ميول سادية قبل انخراطهم في سياق هذه المهنة، وأن الغالبية العظمى هم بشر أسوياء مثلنا تماما (لو صح تصورنا عن أنفسنا بأننا بشر أسوياء، مثلهم!) ويتم تحولهم، أو تحويلهم، إلى جلادين بناء على تحولات، أو تحويلات، في نظرتهم إلى البشر المختلفين عنهم في مواقفهم وأفكارهم.
يبدو أن هذا الشخص كان من هذه النسبة البسيطة. لكن، ما الذي يدفع إنسانا ما إلى تعذيب إنسان آخر وحتى قتله؟!

الضمير الإنساني والمشاعر الإنسانية لا تسمح لأي فرد بإتيان... الأفعال المؤذية والمهلكة ضد أي فرد من نوعه.

أعتقد أن الضمير الإنساني والمشاعر الإنسانية لا تسمح لأي فرد بإتيان مثل هذه الأفعال المؤذية والمهلكة ضد أي فرد من نوعه، أي من النوع الإنساني. بل لا بد من اللجوء إلى إوالية Mechanism نفسية تجعله يقوم بهذه الأفعال ضد إنسان مثله. وتتمثل هذه الإوالية في "نزع الصبغة الإنسانية" عن هذا "الكائن" بحيث يشعر أنه لا يقوم بتعذيب أو قتل إنسان صنوه في الإنسانية وإنما ضد "كيان" آخر ليس له من الإنسانية سوى الهيئة. إنه "شيطان"، أو أي مسمى شبيه، يتخذ صورة إنسان، أو مسخُ إنسان.

فالذين يقفون أمام عدسات التصوير حاملين، بزهو، رؤوس الناس الذين ذبحوهم يعتقدون أنهم خلصوا البشرية، المتمثلة فيهم ومن اعتقد معتقدهم، من مسوخ إنسانية. إنه نوع من العودة إلى وضعية بدائية في التاريخ الإنساني كانت تقدم فيها للمعبودات قرابين بشرية، وفي الغالب كانت هذه القرابين لا تنتمي إلى المجموعة البشرية التي تقدمها.

"نزع الصبغة الإنسانية" هذا يتم بدوافع سياسية أو آديولوجية

و"نزع الصبغة الإنسانية" هذا يتم بدوافع سياسية أو آديولوجية (سواء من قبل نظام سياسي وأجهزته الأمنية، أو من قبل حركة مسلحة تعمل على إسقاط هذا النظام) أو لأسباب دينية. فهو "خائن للأمة، أو الشعب، أو الطبقة" في الحالة الأولى، أو "خارج عن الملة" أو "كافر" في الحالة الثانية.

وفي الحالتين يتم إخراجه من سياق الإنسانية ويصبح تعذيبه والتنكيل به وقتله (وفي الحالات الموغلة في التخلف والتطرف سبي زوجته وأطفاله، وحتى قتلهم) جائزا ومباحا، وفي الحالة الدينية واجبا يثاب عليه! وهذا يتفق مع المثل الإنغليزي القائل: أطلق على الكلب وصمة، ثم اقتله Name the dog, and kill it. أي، اقتله تحت مبرر أنه مسعور أو مكلوب.

موقف معمر القذافي من المعارضة يمثل حالة نموذجية صافية.

ولعل موقف معمر القذافي من المعارضة يمثل حالة نموذجية صافية في هذا السياق. فمعارضوه في الداخل "مرضى ومنحرفون" ينبغي إيداعهم المصحات العقلية (وهنا لم تنزع الصبغة الإنسانية بالكامل)، أما معارضوه في الخارج فـ"كلاب ضالة" وبهذه الوصمة يصبح قتلهم مباحا، بل ومطلوبا، حيث أنهم فقدوا، بمعارضتهم له، بشريتهم وإنسانيتهم. وينبغي ألا ننسى الوصف الذي أطلق على المنتفضين ضد نظامه في آواسط فبراير 2011، وهو وصف الجرذان.