Atwasat

درنة التي في خاطري

سالم العوكلي الثلاثاء 30 يونيو 2015, 12:40 مساء
سالم العوكلي

بالأمس، عندما كنت بأحد المحلات في درنة، دخل أطفال لشراء بعض الحاجيات، توجه أحدهم إلى صاحب المحل مشاكسًا وسأله: أنت «داعش» وإلا «بوسليم»؟ فارتبك صاحب المحل ورد عليه قائلاً: يا أوليدي هذا سؤال خطير، أنا مع الله فقط . رد الطفل: لا لازم تقول علشان نعرفوا، وحين نظرت إليه ابتسم وقال: ريت هالحالة. فقلت له: سبحان الله، كان السؤال الوحيد الدارج بين أطفال درنة وشبابها: أنت دارنيسي أم إفريقي؟ فمن أين جاءتنا هذه الأحزاب والشيع ونحن على مذهب واحد. وكالعادة حين نعجز عن الفهم قال لي: هذا كله مشروع صهيوني، فرق تسد، هل قرأت كتاب بروتوكولات حكماء صهيون؟ اللي يصير توا كله فيه.

مدينة تربت معي في القماط
أدخر في صندوقها عكازي
هائمًا في شوارعها النحيلة
أجر الخطى
إلى كل جدار وردي
فترد بوحي أزقتها اللاطمة.
********
آه يا صمت النحاس
كيف تتلمذ البارود على رائحة الياسمين
وكيف اندثر الجسر القديم
كيف تخثر السحلب على الطاولة الفارغة
كيف تشرد الصيف في صمغ الرطوبة
باحثا عن مقهاه الظليل
كيف تقشرت حوافر الحصان
ومات في عربته الصهيل
كيف استدار الزمان
وجار حبق الظل على قامة النخيل؟

هذا جزء من قصيدة «ربيع درنة» كتبتها العام 2004 ونشرت ضمن ديوان «الوهابة سارقة الموسيقى» العام 2008.

يعيدني إلى درنة، حلمي منذ الطفولة، تلك المدينة التي ارتبطت بكل ما هو مفرحٌ يأتي منها، وبانتظاري لأبي على الرابية قادمًا من اتجاه الشرق محمَّلاً بالهدايا، حيث كانت درنة عنواني الثاني بعد قريتي (القيقب)، محافظتي وبلديتي ومحطتي إلى الجمال وإلى الأناقة وإلى السينما. ومنذ أن زرتها طفلاً في نهاية الستينات، وأنا أحلم بالعيش والشيخوخة فيها. هي درنة التي تربت معي في القماط وأدخر في صندوقها عكازي.

كانت زياراتي لها متقطعة، وأحيانًا أقضي الصيف فيها، إلى أن انتقلت إليها نهائيًّا في منتصف الثمانينات، في عز أفول القيم المدينية في ليبيا التي طغى عليها خطاب التصحر ومعاداة المدينة بشكل منهجي. في تلك الفترة التي سادت فيها مظاهر الاشتراكية الرعوية وشعارات التقشف الثوري، بدأت تطغى على درنة، كغيرها من المدن، سحابة من الكآبة، فأخذت السينما تختفي منها والمقاهي تهجر والمحلات تقفل والفراشيات البيضاء تختفي ليحل محلها لون الحداد الأسود. وما بين الأخضر الداكن الذي يجتاح السواري وواجهات المحلات، والأسود الذي يجتاح هندام النساء، كانت الألوان تأفل في درنة وروحها المرحة تنكمش رويدًا رويدًا.

الصراع بين الوهابية وعقائد الثورة الخمينية أفضى إلى صراع على السيطرة على أكبر قدر من وسائل الإعلام.

لم يكن هذا التصحر نتيجة لخراب داخلي فقط، ولا لأسباب أيديولوجية محضة، لكن المنطقة برمتها كانت تتغيَّر وترتدي لباس الحداد، وهذا التغيُّر في المنطقة، الذي أثر في مدن كبرى مثل القاهرة وبغداد وبيروت، وليس درنة فقط، كان وراءه حدث كبير شهدته المنطقة التي تسمى الشرق الأوسط، وهو الثورة الإيرانية كأول ثورة شعبية إسلامية في التاريخ تُسقط عرشًا حاكمًا، ولاقت هذه الثورة حماسًا منقطع النظير في كل الدول الإسلامية وحتى في المجتمعات السُّـنِّـيَّـة المتحفظة على المذهب الشيعي، أو المتشدِّدة أحيانًا لدرجة تكفير أتباعه.

سميت الثورة الإيرانية ثورة الكاسيت، ومباشرة، في عقد الثمانينات، كانت خطب شيوخ جدد تجتاح عبر أشرطة الكاسيت مجتمعاتنا بشكل لا يمكن وصفه، شيوخ متشددين يملكون مواهب الخطابة والصوت الرنان والقدرة على التلاعب بالعقول، ووصل الكثير من شبابنا لدرجة الإدمان على هذه الأشرطة التي اخترق عبرها فقهاء الوهابية والشيعة المعدلة الوجدان السُّـني مدعومين بصدى ثورتهم العظيمة التي أعلنت حربها منذ البداية على الصهيونية والإمبريالية، تلك الشعارات الفعالة في دغدغة عواطف العرب والتي جعلتهم يتناسون تحفظهم على زعيم هذه الثورة الذي يشتم في كتبه صراحة الصحابة والخلفاء الراشدين.

بعد حرب الخليج وسقوط بغداد توافد كثيرٌ من إخواننا العراقيين على ليبيا، وامتلأت جامعاتنا بأساتذة من العراق، ومن ضمنها جامعة درنة، وتحول معظمهم إلى أصدقائنا عبر مشاركتهم في أنشطة بيت درنة الثقافي، ومن ضمنهم كان صديقي الشاعر والباحث في التاريخ القديم، الذي تجرأت يومًا على أن أسأله سؤالاً أعرف أنه لا يحبه، حول بعض أصدقائه. مَن منهم الشيعي ومَن منهم السُّـنِّي؟ ورغم انزعاجه من هذا السؤال، الذي لم يكن مطروحًا في العراق قبل الاحتلال، أجابني، مَن تجد زوجته مخمرة ولا تسلم على الرجال ولا هو يسلم على النساء وضد فكرة الاختلاط بين الجنسين فهو شيعي، أما السُّـنِّـي فلا. والحقيقة، ما شجعني على أن أسأله بهذا الفضول هو أنَّ بعض الفنانين العراقيين الذين يُدرسون في كلية الفنون ونقيم لهم المعارض في بيت درنة الثقافي، زوجاتهم مخمرات ولا يسلمن على الرجال ولا هم يسلمون على النساء، وكنت أستغرب هذا السلوك من أشخاص محسوبين على الثقافة والفن الحديث، وأعتبره تناقضًا لافتًا.

بدأت إلى حد ما أفهم ما يحصل في درنة، التي بدأت تنتشر فيها هذه الظواهر بشكل غير مسبوق، دعوات عدم الاختلاط ولبس الخمار وظاهرة عدم التسليم على النساء وصولاً إلى خطابات التكفير والانخراط في جماعات مسلحة، وغيرها من المظاهر التي لم تكن مجتمعاتنا تعرفها منذ قرون، بل ومنذ الفتح الإسلامي لشمال أفريقيا، وفي هذه الفترة نفسها وقبل انتشار الفضائيات والنت كان الكاسيت هو أداة هذا التبشير الجديد، ونَجَحَ إلى حد كبير في أن تتغلغل المعتقدات الشيعية المتشدِّدة في مجتمعاتنا، عبر شيوخ يتمتعون بخبرة قرون في هذا المنهج، حيث استطاعوا على مدى التاريخ نشر هذه العقائد في كثير من الأقطار العربية، وأصبح أتباعها أداة إيران الفارسية في التدخل في هذه الأقاليم حتى هذه اللحظة.

في سياق التفاصيل حدَّثني صديقي الباحث في التاريخ عن منشأ هذا الاختلاف، الذي يرجع إلى أنَّ الفُـرس حين اعتنقوا الإسلام بعد هزيمة إمبراطوريتهم، ومن واقع نرجسيتيهم التاريخية لم يستسيغوا فكرة أن يصبحوا أتباع دين(العرب) الذين كانوا يعتبرونهم هامشيين وهمجًا ومتخلفين، فنقحوا الإسلام بكثير من العقائد المجوسية، ومن ضمنها فكرة «العائلة المقدسة»، التي جعلتهم يدخلون عقيدة الإمامة وآل البيت كعائلة مقدسة، وصولاً إلى تغطية المرأة وتحريم لمسها الرجال وعزلها الذي كان يمارس فترة المجوسية لأسباب تربط الأنثى في عقيدتهم بالشيطان، أو هي مسكن للشيطان ويجب الحذر في التعامل معها.

ومن قراءاتي في ما بعد يتضح أنَّ الصراع بين الوهابية وعقائد الثورة الخمينية أفضى إلى صراع على السيطرة على أكبر قدر من وسائل الإعلام، الذي بدوره أفضى في النهاية إلى هذه البيئة الدينية العنيفة والمتشددة، وإلى هذا السيل من الفتاوى المجانية التي يستعين بها كل طرف، بما يشبه ما حدث في الفتنة الكبرى أوائل الإسلام، حيث الصراع السياسي أو القومي يستخدم الدين في معاركه كأداة فاعلة في الحشد وتأجيج المشاعر.

يحب الليبيون مدينة درنة التي ارتبطت في ذاكرتهم بالجمال والفن والأناقة.

كنت أحاول أن أجد إجابة على سؤال يتعلق بهذه التغيُّرات العقائدية في مجتمعاتنا، التي في الواقع بدأت بعد الثورة الإيرانية، وكنت أقرأ عن تاريخ الإسلام الأول منذ النبوءة وعن وضع المرأة فيه، حيث كانت ترافق المجاهدين في غزواتهم، وتبيت في معسكراتهم، وتعالج جرحاهم وتدخل مع الرجال في حوارات مباشرة ودون عازل، وعن موسم الحج أحد أركان الإسلام الذي يتم فيه الاختلاط بشكل مباشر والنساء مكشوفات الوجوه والأيدي على الأقل.

بدأت أفهم من أين جاءنا هذا التشدد، وكيف تحولت شوارعنا إلى ما يشبه شوارع طهران بعد الثورة الخمينية، وكيف بدأت التنظيمات المسلحة التي لم نكن نعرفها واشتهر بها خطابات الوهابية أو جماعات الشيعة المختلفة على مر التاريخ.

ليس غريبًا سؤال الطفل لصاحب المحل، هذا الطفل الذي لم يعايش انقسام درنة إلى دارنس والإفريقي، يعيش الآن هذا الانقسام الوافد على مدينة سنِّـيَّـة مالكية اشتهرت على مدى التاريخ بتدين سكانها وتفتحهم في الوقت نفسه. داعشي وإلا بوسليم؟! سؤال غير بريء في فم طفل بريء.

يحب الليبيون مدينة درنة التي ارتبطت في ذاكرتهم بالجمال والفن والأناقة، وهي أكثر المدن التي كتب عنها شعراء ليبيا قصائد غزل في جمالها، كانت رائدة ومساهمة فعالة في التأسيس للكيان الليبي، وكانت رائدة في الثقافة السينمائية وفي المسرح وفي تصدير الخبرات الإدارية والمصرفية، لكل لذلك احترمها الليبيون، ولكل ذلك يبرز بوضوح الآن حزنهم على هذه المدينة المنارة التي أصبحت معزولة عن وطنها ليبيا وعن مشاركتها في إعادة بنائه حتى عبر الانتخابات التي غابت فيها درنة عن لجنة الستين وعن مجلس النواب بسبب هذه العزلة المفروضة عليها، مدينة يعمها الظلام بمفهومه المباشر والمجازي وهي التي نشرت نور العلم في كل محيطها، وكانت على مرِّ التاريخ إحدى منارات هذا الوطن ووعاءه الذي لا ينضب من التكنوقراط ومن الخبرات.

درنة التي شاءت الطبيعة أن يقسمها الوادي إلى ضفتين بينهما جسور التواصل والمحبة، وأن يقسم الوادي مقسم الهاتف القديم فيها إلى قسمين، أرقام بعد 3 وأرقام بعد 2، ستنطلق فيها ثنائيات لا تنتهي من المرح والتنافس، نادي دارنس بلونه الأصفر والأفريقي بلونه الأخضر. سينما التاجوري وسينما الزني. المسرح الوطني ومسرح الهواة، الفنان سالم بن زابيه والفنان مصطفى البتير، الشاعر عبدالحميد بطاو والشاعر علي الخرم وظل شعراؤها يخرجون اثنين اثنين. لم أتصور يومًا أن تكون درنة ساحة قتال بين اثنين لا يمتان لها بصلة، البغدادي والظواهري، ولم أتصور يومًا أن أسمع سؤال طفلها غيرَ البريء عن ثنائية خطابها الدم.