Atwasat

جلابية ديسمبر.. عباءة سبتمبر.. شنة فبراير

سالم العوكلي الثلاثاء 26 مايو 2015, 09:02 صباحا
سالم العوكلي

"في مدخل الأربعينات، في أحد بيوت القاهرة، وفي اجتماع للأعيان والشيوخ والنشطين السياسيين الليبيين في المهجر، قال حمد باشا الباسل.. أحد أثرياء قبيلة الفوايد الليبيين المستوطنين في مصر.. وأحد قادة ثورة 1919 .. قال:"يا جماعة الخير.. الاستقلال راهو جلابية كبيرة !". وفعلا، من خلال أحاديثي مع كثيرين من أبناء تلك الحقبة، لم يكن الليبيون وقادتهم يتطلعون إلى أكثر من حكم ذاتي. وكان يكفيهم أن تخلصوا من نير الاستعمار الإيطالي. ولم يكن الليبيون حتى ذلك التاريخ قد جربوا أي نوع من الحكم الوطني.".

"في نهاية الأربعينيات لبست ليبيا جلباب الفرح والاستقلال والأمل بفضل إصرار الليبيين على الاستقلال.. وبجهد ونشاط مجموعة صغيرة من النخبة الوطنية. والأهم بفضل تضارب المصالح الدولية التي شاءت استبعاد الاتحاد السوفييتي ومعاقبة إيطاليا وكبح طموحاتها التوسعية، رغبة بريطانيا في التواجد غربي مصر حيث قناة السويس.. ورغبة أمريكا في دخول البحر المتوسط ضمن إستراتيجية التصدي لروسيا إبان الحرب الباردة. هذه المعادلات المتداخلة والمعقدة كانت وراء وصول ليبيا إلى شرفة الاستقلال."

"حرص بعض قادة طرابلس من جانبهم على توحيد الحراك السياسي لطرابلس وبرقة، ودارت حول ذلك مداولات في بنغازي في بداية 1947 م ، لكنها باءت بالفشل الذي قابله الشارع السياسي بالاستهجان والحزن. من جهة أخرى سعت إيطاليا إلى العودة إلى حكم طرابلس، بلغ ذروته في ما عُرف بمشروع بيفن ـ سفوزا (نسبة إلى وزيري خارجية بريطانيا وإيطاليا) والذي رفضته الجماهير الليبية في مظاهرات صاخبة. وإثر فشل المشروع بادرت بريطانيا بمنح برقة استقلالا ذاتياً تحت إمارة السيد إدريس. وكان حسم الشكوك والخلافات بين طرابلس وبرقة، عبر سلسلة من المبادرات والمناورات، على يد بشير السعداوي الذي أرتأى القبول بتولي الملك إدريس كطريق وحيد للاحتفاظ باستقلال ووحدة البلاد. وهكذا نجح السعداوي تدريجياً في إقناع زعماء طرابلس والرأي العام هناك، وإن دفع ثمناً باهظا من شعبيته ومصداقيته."

"تشكلت الجمعية الوطنية الليبية التأسيسية(لجنة الستين) التي مثلت إلى حد كبير كل قبائل ومناطق البلاد. وكانت الجمعية برئاسة الشيخ أبوالإسعاد. وعقدت 43 جلسة في طرابلس(من يوم 25 نوفمبر 1959 إلى 6 نوفمبر 1951 ). وعن هذه اللجنة انبثقت لجنة الدستور. وانتهت كل تلك الجهود إلى صياغة شكل الدولة الليبية: مملكة دستورية يملك فيها الملك ولا يحكم، نظام برلماني، وتدار الدولة على أساس فيدرالي، أي حكومة اتحادية وثلاث ولايات، لكل حكومة محلية(مجلس تنفيذي من نظار ومجلس تشريعي). واستطاع السيد إدريس بفضل ما أوتي من حنكة ومناورة وتسامح، أن يستوعب تدريجيا خصوم الأمس وأن يشركهم في السلطة".

"في مارس 1951 عين الملك إدريس محمود المنتصر رئيساً للحكومة الاتحادية المؤقتة. وجمع محمود المنتصر في شخصه جملة من العناصر، فهو من أعيان طرابلس، وذي[كذا] خبرة إدارية اكتسبها من خلال العمل أيام الإدارة الإيطالية".

"كان للدولة برلمان يتنقل بين طرابلس وبنغازي، وفيه كانت تدور المناقشات الحادة أحيانا وكانت مفتوحة للجمهور الذي يجلس في الدور الأول مطلاً على القاعة. وكانت فرصة للشباب المتذمر أن يشنف أذنيه وينتعش لسماع أصوت معارضة هادرة، مثل خطابات الأستاذ علي مصطفى المصراتي، لكن أشهر شخصيتين غير سياسيتين، تآلفتا مع مجيء البرلمان إلى بنغازي، كانا الأديبان[كذا] الشابان[كذا] المتميزان[كذا]: الأستاذ خليفة التليسي والمرحوم يوسف الدلنسي .. سكرتيري[كذا] مجلس النواب."

هذه مقاطع أو وقائع توقفت عندها وأنا أقرأ كتاب(زمن المملكة) للدكتور محمد المفتي، الذي يرصد فيه حركة المجتمع الليبي السياسية والاجتماعية خلال عقدين مهمين من تاريخ هذا الكيان، الخمسينيات والستينيات، ولم يكن توقفي عند هذه الوقائع بسبب نزوع رومانسي تجاه الماضي، ولكن لكثافة التعبير فيها عن طبيعة المرحلة، وعن مفاصلها المهمة التي استطاعت في النهاية أن تحول مجتمعا، يفتقد تقريبا لكل مقومات الكيان السياسي، إلى مشروع دولة مهمة خلال العقدين المذكورين، فيما يعتبره الكثير من المتابعين آنذاك شبه معجزة، واستطاعت ليبيا الوليدة أن ترتدي جلابية الاستقلال بمعونة المجتمع الدولي، غير أن هذه الجلابية الفضفاضة والواسعة التي أعطت حرية من الحركة للجسد داخلها هو ما أكسب هذه الدولة نوعا من الهشاشة جعلها عرضة للرياح التي تهب على المنطقة.

تلك مرحلة هامة في ليبيا يحن لها قطاع كبير من المجتمع وينظر إليها بحس رومانتيكي عال، ويتوجه البعض إلى نقدها باعتبارها أسست لكل ما حدث بعدها من انهيار وانتكاسات، ورغم كل شيء يظل في التاريخ الاجتماعي ما يسعف ظمأ الباحث عن قيم ثابتة في هذا المجتمع يمكن توظيفها للخروج من الأزمة، وقيم متحولة يمكن التعامل معها وتسخيرها لخدمة الأهداف الأصيلة للتغيير .

ولكن هل فعلا تتكرر الأحداث التاريخية؟ وهل يمكن أن تتحول الوقائع إلى عبرة مثلما علمونا في المدارس؟

في كتابه المهم(عقم التاريخانية) الذي غيّر المترجم، عبد الحميد صبرة، عنوانه إلى:(بؤس الأيديولوجيا.. نقد مبدأ الأنماط في التطور التاريخي) يقول كارل بوبر:"التكرار الحقيقي ممتنع في التاريخ الاجتماعي؛ ومعنى هذا أننا يجب أن نتوقع ظهور الحوادث الجديدة في جوهرها. نعم إن التاريخ قد يعيد نفسه ـ ولكنه لا يعيد نفسه أبدا في نفس المستوى، وخاصة إذا كانت للحوادث المعادة أهمية تاريخية، وكان لها في المجتمع أثر باق".

فهل لمثل هذه الأحداث أهمية في تاريخنا الاجتماعي؟ وهل ثمة ما ترسب منها في وجداننا وأنماط سلوكنا؟ أم أن الأنظمة الشمولية التي تعتمد الغسيل الدماغي، بمعناه الحرفي، قادرة على أن تمحو كل ما علق بالذهن والنفس من هذه القيم؟

صراع تمخض عن حالة استقطاب حاد أدت إلى تدخل أجندات دولية

يتطرق المفتي في كتابه إلى رصد الصراع الذي حدث بين المنطقة الشرقية التي كان يتزعمها السيد إدريس السنوسي المدعوم من بريطانيا التي كان لها الفضل الأساسي في التخلص من الفاشية الإيطالية، وبين المنطقة الغربية بزعامة السيد بشير السعداوي العائد من الخارج والمدعوم من عبد الرحمان عزام، أمين عام جامعة الدول العربية. صراع تمخض عن حالة استقطاب حاد أدت إلى تدخل أجندات دولية، من طبيعتها أن تعمل في مثل هكذا ظروف من عدم الاتفاق، وكاد يؤدي إلى انقسام ليبيا، غير أن تنازل السعداوي لإدريس شكل تضحية كبيرة من طرفه من أجل الحفاظ على وحدة هذا الكيان الذي مازال في حالة ولادة، احترق السعداوي سياسيا وفقد شعبيته وأعوانه لكنه أنقذ ليبيا من أسوأ سيناريو يمكن أن يحدث. وهنا تبرز أهمية الأشخاص الذين يقودون المراحل الحرجة، بل أن علاقة التأثير المتبادل بين الجماعة والأفراد تبقى، أو كما يطرح بوبر في الكتاب نفسه:"قد يكون لشخصيات الأفراد تأثير عظيم في تاريخ الجماعة وهيئة بنائها، ولكن هذا لا يمنع من أن يكون للجماعة تاريخها وبناؤها الخاصان بها، بل لا يمنع من أن يكون للجماعة تأثير عظيم في شخصيات أفرادها". هذا التأثير المتبادل يظهر جليا الآن في الاختلاف بين الأجيال في ليبيا، جيل متأثر بشخصيات المرحلة التي عايشها إبان الملكية وهو جيل خارج الفعل السياسي تقريبا، وجيل تأثر بشخصيات النظام وثقافته، وهذا التأثر ليس مرتبطا بحب أو كره هذه الشخصيات الفاعلة ولا بالرضا، ولكنه مرتبط بفكرة التعايش والتأقلم معها.

رغم ما شاب مراحل تشكل الدولة الليبية من ألاعيب سياسية ومن منع للأحزاب، إلا أن الصراع في جوهره كان بين أجيال أيضا، إدريس ومناصروه الذين كان تركيزهم على المحلي وعلى جعل هذه الكيان يقف على أقدامه، مُركزين على حربهم على الأمية والأوبئة، على القمل والجرب والسل والتراكوما، وعلى تأسيس قاعدة اجتماعية للدولة السياسية. والطرف الآخر محمول على شعارات كبرى تتعلق بالحرب على القواعد الأجنبية، وعلى التشارك مع حركات التحرر العالمية، وعلى القومية كموضة فكرية ناشئة، وعلى تحرير الحراك السياسي الليبي من الوصاية، وهي الشعارات التي وجدت صداها الكبير بعد انقلاب سبتمبر، ما جعلت محمد المفتي يقول عن فترات الحماس الساخن:"كنا على حق ولكن لم نكن على صواب". وفي الأحوال جميعها كان دائما سؤال الديمقراطية مؤجلا، وكانت المطالب المحلية المعيشية أو الشعارات الأيديولوجية الكبرى بديلا له، مثلما حدث ويحدث الآن.

غير أن القيمة التي من المفترض أن تكون أساسا لتشكيل الدولة أو لمراحل الانتقال المهمة هي القدرة على استيعاب الاختلاف،"واستطاع السيد إدريس بفضل ما أوتي من حنكة ومناورة وتسامح، أن يستوعب تدريجيا خصوم الأمس وأن يشركهم في السلطة". ربما لم يكن هذا كافيا آنذاك لجيل متحمس ومستعجل، ولكنه كان لبنة مهمة في بناء الدولة الحديثة.

أما تكليف محمود المنتصر بتشكيل أول وزارة يؤشر على فكرة التسامح التي اتسمت بها تلك المرحلة الحرجة، والتي سبقتها مواثيق اجتماعية هامة تتعلق بطي صفحة أحقاد الماضي وفتح صفحة جديدة. المنتصر الذي تلقى تعليمه ونفوذه في أروقة الإدارة الإيطالية التي عمل معها لفترة طويلة، لم يكن هدف تصفية أو إقصاء من الملك الذي كان في المنفى يقود حركة المقاومة ضد إيطاليا عسكريا وسياسيا، وهو لم يفكر في أي نوع من قوانين العزل التي تبعد الكفاءات الوطنية عن بناء الدولة، ولو فكر في ذلك لكان البديل حرباً أهلية طويلة. محمود المنتصر كما يصفه المفتي بناء على شهادات مجايليه:"كإداري كان المنتصر رجلا دقيقا وصارما، مخلصا لعمله وبالتالي لوطنه... كان نزيها عفيف اليد ولم يعتد على المال العام، ولم يستغل مكانته للثراء...."

وهذه الصفات المهنية كانت المؤشر الأساسي لوطنيته، ولم يكن تقييمه خاضعا لمعايير أخرى تتعلق بعلاقته مع نظام الحكم السابق، فلم تكن فكرة تأسيس هيأة إلهية للاطلاع على الأفئدة ولتحديد معايير الوطنية والنزاهة واردة أو مطروحة، لكن الكفاءة فقط كانت هي المعيار الأول.

هيأة معايير الوطنية والنزاهة، وقانون العزل، كان الهدف منهما فقط إقصاء الكفاءات التي تشكل خطرا على جماعة تريد أن تتمكن من مفاصل الدولة

هيأة معايير الوطنية والنزاهة، وقانون العزل، كان الهدف منهما فقط إقصاء الكفاءات التي تشكل خطرا على جماعة تريد أن تتمكن من مفاصل الدولة، مستخدمة خطاب الشعارات الوطنية، بدل الكفاءة، لتحرر في النهاية قانونا يقول الليبيون عنه كانت الغاية منه عزل د. محمود جبريل. الذي اكتسح تحالفه الانتخابات التشريعية الأولى. والمقارنة صعبة بين تلك الفترة التي أدى التسامح والموضوعية فيها إلى تأسيس الدولة الليبية، وهذه الفترة التي أدت الأحقاد فيها والإقصاء والعزل إلى حرب أهلية ندفع ثمنها من أرواح ودماء شبابنا الذين من المفترض أن يكونوا ذخيرة الدولة الجديدة في البناء والإدارة والتنمية.

الانفتاح في تلك المرحلة على العالم، وحنكة التعامل مع تضارب مصالح الدول الكبرى، هو ما أسهم في حصول ليبيا على الاستقلال. رغبات أمريكا التي سبق ذكرها في الاقتباس من كتاب زمن المملكة، ورغبات بريطانيا، ومحاولات كبح الجماح السوفيتي، ومعاقبة إيطاليا، صبت كلها في صالح الساعين للحصول على استقلال ليبيا، ما يحيلنا إلى حنكة سياسية تجيد إدارة الصداقة والعداء، والقدرة على تحقيق المصلحة الوطنية في خضم تضارب المصالح الدولية، التي لا مهرب لنا منها إلا بقدرتنا على مقايضتها بثوابتنا ومصالحنا الأساسية، لكن ما يحدث الآن، ومن جيل تأثر بسياسة العقود الأخيرة، هو تحقيق مصالح هذه الدول نفسها مقابل مكاسب شخصية أو حزبية أو إقليمية. وفي النهاية لا يمكن أن تعود هذه الدول إلا بمصالحها، لكن دون أن تقايض بأي مصلحة وطنية.

كان البرلمان يتنقل بين طرابلس وبنغازي كخطوة نحو تقليص المركزية والحفاظ على الوحدة الوطنية، والأهم من ذلك كانت الشفافية جزءا من بنيته، حيث كان مسموحا للراغبين الدخول ومشاهدة الجدال داخله، والأهم من الأهم، أصوات المعارضة الصادحة في داخله، والأكثر أهمية من كل الأهميات، بروز شخصيات ثقافية وأدبية داخله مثل التليسي والدلنسي. وكل هذا لا يلغي الكثير من التفاصيل السلبية المتعلقة بالعمل البرلماني والسياسي عموما آنذاك، وهي طبيعية في مجتمع ونخبة مازالت تتعلم أبجديات الديمقراطية.

اخترت هذه الوقائع المفصلية لأنها تحيلنا إلى مقارنة بما يحدث الآن، فالتاريخ يستحث الذاكرة لكنه لا يعيد نفسه بالمستوى نفسه، غير أن المسرحية يمكن أن تتكرر على الخشبة نفسها وإن اختلف الممثلون، فالمسرح الليبي مازال محتفظا بنفس ديكوره؛ أهمية الموقع والثروة النفطية، ومعداً بهذه الانقسامات في داخله لتدخل القوى التي مازالت هي نفسها المهيمنة وصاحبة المصالح، ومعرفة التاريخ والمتغيرات في هذه الحالة ستكون مهمة لإضاءة طريق الخروج من النفق.

أنجز محمد المفتى سردا مهما في عديد الكتب لتاريخ هذا المجتمع الاجتماعي، وهو يدرك جيدا أن مرحلة ما بعد القذافي آتية لا ريب، وكانت شخصية الطبيب داخله تؤمن بأن الوقاية خير من العلاج، وأن التشخيص الصحيح أول خطوة نحو العلاج الصحيح، فقدم هذا التاريخ بحيادية، بمحاذيره وبما يبشر فيه من قيم.

لقد لبسنا كليبيين جلابية الاستقلال الواسعة التي كانت الرياح تلعب داخلها، وصرنا نحلف بسيدي إدريس طلاق المحابيس، ثم لبسنا عباءة الفاتح المصنوعة من وبر الجمال في قيظ هذه الصحراء المترامية وصرنا تهتف لصاحبها، الذي حرّم لبس ربطة العنق: يا بوعباة دونك ثلاث ملاين. وبعد فبراير، وبحاجة تاريخية وسيكولوجية للزعيم، لبسنا شنة عبد الجليل وصرنا نهتف: نجي بوشنة حمرة.. ما نديروا شي الا بامره. وبعد أفول الربيع العربي جاء خريف التعري لكل شيء ومن كل شيء وبدأت طقوس الستريبتيز على أشدها في المجتمع الليبي، وهي طقوس مهمة جدا لأنها ستكشف عورات هذا المجتمع التاريخية، وتتعرى فيها كل الأوهام التي شابت بناء هذا الكيان الذي ظل هشا في كل مراحله. هذا الكشف وتعري الأوهام خطوة على طريق طويل وشاق صوب ليبيا التي بها نحلم.