Atwasat

ترحال: نخلة أمّي

محمد الجويلي الإثنين 25 مايو 2015, 09:21 صباحا
محمد الجويلي

أصبح الاحتفال بعيد الأمّ تقليدا عالميّا. كان أمريكيّا خالصا، ولكنّه سرعان ما انتشر في سائر أنحاء العالم إلى أن وصل إلى البلدان العربيّة متأخّرا نسبيا، ولا غرابة في ذلك، فنحن عادة ما نكون من الأوائل في استيراد سلبيات أمريكا وآخر من يستلهم ويستفيد من إيجابياتها. الأمومة العربيّة معذّبة منذ قديم الزمان ولكن معاناتها ازدادت حدّة في السنوات الأخيرة، أمّ ثكلى وأمّ أرملة وأمّ مشرّدة لاجئة بأطفالها في البراري والصحاري وأمّ"حارقة" فارّة بجلد رضيعها من جحيم الحرب إلى جحيم البحر المتوسط مولية وجهها نحو الشمال وفي أحسن الحالات، كما هو في تونس التي يقع فيها هذه الأيّام الإعداد للاحتفال بهذا العيد يوم الأحد القادم أي في آخر أحد من شهر مايو كما جرت العادة منذ سنوات، صارت الأمّ مثقلة-"تشهق، ما تلحق" أكثر من أيّ وقت مضى- برغيف أبنائها ولقمة عيشهم وقلقة على مصيرهم، متوجّسة ممّا ينتظرهم في قادم الأيّام والأعوام.

الأمّ العربيّة التي تعنينا بصفة مباشرة، كما كلّ أمّهات الشعوب، عظيمة عظمة الأنبياء والرسل ولذلك اخترت لكتابي الذي ألّفته حول حكاياتها الشفوية الخرافيّة التي تتناقلها الألسن جيلا بعد جيل عنوان"الأمّ الرسولة"[مع تأنيث الصفة عمدا] ليس فقط في المعنى النفسي والانتروبولوجي، أي باعتبارها باثة لرسالة تتعلّق بأمومتها ووضعها الوجودي ومنزلتها في الكون، وإنّما لأنها فعلا جديرة بأن تبجّل وتُمدح وتُكرّم تكريم الأنبياء والرسل. كيف لا وهي والدتهم وراعيتهم وفي بعض الأحيان في غياب الأب وعدمه المطلق، أمومة خالصة لا بصمة للذكورة والأبوّة فيها، حتّى أنّه يحقّ أن تكون كلّ الأيّام أعيادها، بل كل اللحظات والثواني هي لحظاتها وثوانيها.

حكايات أمّهاتنا الأمّيات الشعبيات اللواتي لم يتعلّمن في المدارس والجامعات التي ورثناها وتربّى عليها لقرون أجيال من الأطفال، رجالا ونساء، والتي عوّضتها الآن لدى أطفالنا حكايات"توم وجيري" والسبايدر مان" و"بات مان" وغيرهم من أبطال الحكايات الكرتونية الأمريكيّة! هي خير من يرشدنا ليس فقط إلى حِكمهنّ وعقلهنّ التربوي العظيم الذي ينير سبيل الناشئة إلى غد أفضل، بل إلى لاوعيهنّ وأحلامهنّ وأوجاعهنّ ونظرتهنّ إلى العالم وتصوّرهنّ للأمومة: عطاء خالص وتضحية كاملة من أجل السهر على أطفالهنّ ورعايتهنّ حتّى يقوى عودهم لمواجهة مصاعب الحياة ومحنها وإخضاعها لمشيئتهم دون أن ينتظرن لا جزاء ولا شكورا ما عدا مبادلة حبّهنّ بنجاح أطفالهنّ وسعادتهم.

لا يسمح السياق هنا بتفصيل القول في معاناة الأمومة وهواجسها من خلال الحكايات النسويّة الشعبيّة التقليدية العربيّة ونحن نحتفل بهذا العيد ونهدي إلى أمّنا المشتركة الواحدة بطاقة حبّ وعرفان بالجميل، كلّ على طريقته: وجع الأنوثة، قلق الولادة وكابوس العقم، فوبيا الفراق وقهر الرجال والتوجّس منهم وغيرها من القضايا التي تؤرّقهن، ولكن ثمّة مسألة جديرة بإثارتها في هذا العيد،هي علاقة الأمومة بالغياب، بما في ذلك الغياب الأكبر متمثّلا في الموت، ليس خشية منه وإنّما خوفا من أن ترحل الأمّ إلى الأبد وتترك صغارها وهم في نعومة أظفارهم وحدهم يواجهون رياح الحياة العاتية ومكائد الدهر وشروره التي عادة ما تجسّدها زوجة الأب الفظّة غليظة القلب. في حكاية منتشرة بكثرة في التراث الشعبي للمغرب العربي الكبير وفي الخليج بكلّ تأكيد، ولربّما في بلاد الشام والعراق ومصر أيضا، وهذا ما ينبغي البحث فيه، تختلف أحيانا في رواياتها قليلا أو كثيرا في القطر الواحد بعينه لكنّها تتّفق في كون الأمّ المتوفّاة قد تركت لأطفالها قبل مماتها ما يقتاتون به وتواصل رعايتهم والسهر عليهم في غياب والدهم الغارق في شهوته وتحميهم من زوجته الشرّيرة. في إحدى الروايات نرى البقرة التي ورثوها عن أمّهم ترعاهم وتدرّ عليهم الحليب وتطعمهم من جوع، وفي رواية أخرى نجد الأمّ وقد استنسخت في بقرة هي التي ترضعهم وتغذّيهم وإذا حدث في رواية مختلفة أن تذبح زوجة الأب البقرة نكاية وشماتة فيهم، فإنّ الأطفال يلتقطون عظامها ويدفنونها في حفرة سرعان ما تنبت منها وتنمو شجرة تطعمهم من ثمارها، شجرة تين أو نخلة تتأرجح في أعلاها عراجين كسيت بلحا وتمرا وأثداء بارزة كأثداء امرأة ولدت لتوّها تدرّ حليبا صافيا، ما يجعلها نخلة وأمّا في ذات الوقت، بل نخلة أمّا.

نجد لهذه الحكاية روايات متعدّدة في الجزائر وتونس والمنطقة الغربيّة في ليبيا، ولعلّه في شرقها وجنوبها أيضا. إحدى هذه الروايات تعرف بـ"نخلة أمّي" وتروي قصّة طفلين ولد وبنيّة ماتت أمّهما، فتزوّج والدهما امرأة شرّيرة كانت تتعمّد تجويعهما وترسلهما كلّ يوم يرعيان بقرة من شروق الشمس إلى غروبها ليعودا في آخر النهار منهكين جائعين دون أن يجدا في المنزل ما يسدّان به رمقهما، فيلوذان بالنوم. وهكذا كان دأبهما كلّ يوم لا يتمتّعان من الدنيا إلّا بما تدرّه عليهما البقرة من حين إلى آخر من الحليب، ما يجعلهما يستطيعان الوقوف على أقدامهما، وفي يوم من الأيّام، وقد دفعهما الحنين إلى أمّهما، وهما أن يفتشان ما تركته من متاعها الشخصي عثرا على كيس ملآن بالتمر يبدو أنّها ادّخرته لهما تحسّبا لأيّام الشدّة. أخذا حفنة من التمر واصطحبا البقرة كعادتهما في الصباح الباكر إلى المرعى وبدآ يأكلان ويلقيان بالنوى على الأرض. أثمرت نواة من هذا النوى نبتة سرعان ما صارت نخلة بدأت بمرور الأيّام تثمر تمرا. في كلّ يوم يقتات الطفلان من تمر النخلة وحليب البقرة، ولكن قبل أن يعودا إلى المنزل يطلبان من النخلة أن تصعد إلى السماء حتّى تتوارى عراجينها عن الأنظار، فلا يستطيع أحد النيل منها في غيابهما ومن الغد يعودان إلى المرعى يطلبان منها أن تهبط، فتستجيب نزولا عند رغبتهما حتى تطعمهما من ثمارها دون عناء وهما الصغيران اللّذان لا يقدران على تسلّقها.

ما يجدر ذكره هنا هو أنّ عطاء الأمّ قد اكتسب في هذه الحكاية دلالة مقدّسة وكأنّ روحها قد انتسخت في هذه النخلة. النخلة ليست رمزا للأمّ فقط وإنّما كأنّ الأمّ بُعِثت نخلة. صارت أمّا-طبيعة. وكأنّها نخلة مريم تنزل على الطفل وهو في المهد رطبا شهيا هو وأمّه في أمسّ الحاجة إليه في عزلتهما وفي غياب الأب. حكاية اليتامى والبقرة والشجرة المثمرة تُوجد كذلك في أوروبا، ولكن بشكل مختلف. الأخوان قريم (Grimm) الألمانيان في مجمع حكايتهما قد جمعا حكايات يعترضنا فيها البقر والشجر الذي يرعى الأطفال المضطهدين في غياب والدتهنّ. تُذبح البقرة ولكن يعمد الأطفال إلى دفن أحشائها فتنمو شجرة منها تثمر ذهبا وفي حكاية"ساندريلا" في رواية الأخوين نفسيهما تعمد البطلة التي تحمل هذا الإسم إلى غرس غصن من شجر البندق على قبر أمّها سرعان ما صار شجرة بأكملها أغدقت عليها من ثمارها ثلاثة فساتين عجيبة الجمال.

تقهرالأمّ الموت بخيالها وأحلامها وأدبها. ولكن إذا حضرت حتّى في غيابها، فإنّها كثيرا ما تعمد إلى تغييب الأب في الكثير من حكاياتها

الأمّ لا تغيب أبدا عن أطفالها. الموت ذاته، الغياب الأكبر والأطول، اللامتناهي الطول غير قادر على أن يغيّبها عن أطفالها. هذه هي أغلى أمانيها والرسالة التي تودّ تبليغها. تقهرالأمّ الموت بخيالها وأحلامها وأدبها. ولكن إذا حضرت حتّى في غيابها، فإنّها كثيرا ما تعمد إلى تغييب الأب في الكثير من حكاياتها، بحيث لا تقع الإشارة إليه، لا من قريب ولا من بعيد وتتجاهله تماما، ما يجعل من الحكاية مجالا ترتع فيه الأمّ مع طفلها بحرية، بعيدا عن حضور الأب ورقابته، وقد يحضر حضورا باهتا، فلا يقع ذكره إلّا عرضيّا باعتباره أب البنات، بمعنى الأب البيولوجي أكثر ممّا هو أب وظيفي وبالاقتصار على تعريفنا بمهنته "عيشة بنت الحوّات" أو"بنات الفلّاح" قبل أن يندثر تماما من الأحداث ويا ليته لم يُذكر بهذه الطريقة ويحضر بهذه الكيفية الباهتة لأنّ ذكره لا منفعة منه ولا يضيف شيئا للحكاية ولا لمتلقيّها، وعلى أيّ حال فهذا التغييب والتهميش أفضل بكثير من أن يقع الزجّ به في أحداث يكون فيها بطلا مدمّرا يلقي بأبنائه اليتامى في بئر تحت ضغط زوجته فيجدون في الغولة التي ترعاهم وتسهر عليهم من قيم الرحمة والمحبّة ما لم يجدوه في والدهم! وما أكثر الحكايات التي تصوّره على هذا النحو وعلى نحو آخر يثير السخرية والتهكّم، وهذا مفهوم في أدب خرافي أبدعته أمّهات وجدّات من الماضي البعيد القريب كنّ في الغالب يعانين فيه من دكتاتورية الزوج- الأب. وخلاصة الأمر، فإنّ منزلة الأب لدى الأمّ التقليدية، ولربّما لدى أمّ اليوم، مسألة على غاية من الأهمّية.

ولكن لنتركها لعيد الأب.
أمّا الآن فنحن نحتفل بعيد الأمّ.
عاشت الأمّ ولها المجد والخلود.