Atwasat

وعي الانهيار ووعي النهوض

عمر أبو القاسم الككلي السبت 23 مايو 2015, 08:25 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

يتردد كثيرا أن ابن خلدون"مؤسس" علم الاجتماع. وهو قول فيه من الحماس والتسرع، إن لم نقل"المغالطة"، أكثر مما فيه من الدقة!

هذا الأمر يستدعي تحديد مفهوم"التأسيس".

فحين نقول أن الحاكم الفلاني أسس المدينة الفلانية، أو أنها تأسست في عهده، يكون مقصدنا أن نواتها الأولى أرسيت في ذلك الوقت ومن ثم توسعت ونمت وازدهرت وتطورت وعاشت حقبا طويلة، أو أنها ماتزال حية ومعمورة حتى الآن، مثل طرابلس ليبيا التي تأسست من قبل الفينيقيين في القرن السابع قبل الميلاد(أي منذ أكثر من 2600 سنة) ودمشق(التي تأسست في فترة مقاربة) وبغداد التي تأسست، كعاصمة للخلافة العباسية، في القرن الثامن الميلادي والقيروان التي تأسست في القرن السابع الميلادي.

وحين نقول أن إقليدس( حوالي 265-352 قبل الميلاد)أسس علم الهندسة أو أن هيرودت(حوالي 484- 425 قبل الميلاد) أسس علم التاريخ، فنحن نعني أن كلا منهما وضع اللبنة، أو اللبنات، الأولى في هذا العلم أو المجال المعرفي ليتطور، من ثم، دون انقطاع وقد يتخذ شكلا، أو أشكالا، وتفرعات يناقض بعضها، أو كلها، مباديء التأسيس الأولى. لكن هذا كله لم يكن ليحدث، على الأقل بهذا المنوال، لو لم يقم إقليدس أو هيرودوت بوضع حجر الأساس في الهندسة والتاريخ، على التوالي.

وليس هذا هو الشأن مع ابن خلدون. فما من علاقة لابن خلدون بعلم الاجتماع ولا يحتل مكانا في تاريخه!

نعم، لقد توصل ابن خلدون إلى وضع أسس علم سماه"العمران البشري والاجتماع الإنساني" وهو اسم دال وعميق، وكان واعيا بما يفعل تمام الوعي. فهو يقول:"وكأن هذا علم مستقلٌّ بنفسه، فإنه ذو موضوع، وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل؛ وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته، واحدة بعد أخرى، وهذا شأن كل علم من العلوم، وضعيًّا كان أو عقليًّا".

نعم. لقد كان له هذا السبق.

لكنه وضع أسس هذا العلم على رمال ناعمة متحركة سرعان ما طمرتها وغاب أثرها، ولم يكن ممكنا تطوير هذا البناء وتمتينه وتوسيعه في الحضارة العربية الإسلامية التي ظهر فيها، على خلاف ما كان يأمل ابن خلدون حين قال:" ولعلَّ مَنْ يأتي بعدنا- ممن يُؤَيِّده الله بفكر صحيح، وعِلْـمٍ مُبِينٍ- يغوص في مسائله على أكثر مما كتبنا، فليس على مستنبط الفنِّ إحصاء مسائله، وإنما عليه تعيين موضوع العلم، وتنويع فصوله، وما يُتَكَلَّم فيه، والمتأخِّرُون يُلْـحِقُون المسائل من بعده شيئًا فشيئًا إلى أن يكمل". وحين اُكتشف عمله، من قبل المستشرق الفرنسي سلفستر دو ساسيSilvestre de Sacy((1838-1758 الذي نشر فصلين من المقدمة سنة 1806، كانت قد مرت أربعة قرون بتمامها على وفاة ابن خلدون((1406-1332 ظل فيها اكتشافه مجهولا وأثره معدوما وكان علم الاجتماع، الذي ينسب إلى الفرنسي أوغوست كونت((1857-1798، على وشك الولادة في حضارة أخرى ولم يرغب أهل تلك الحضارة، على الأقل بسبب حاجز اللغة، في المواصلة من النقطة التي انتهى إليها ابن خلدون.

إن علاقة ابن خلدون بعلم الاجتماع تماثل جزيرة مجهولة اكتشفها أحدهم فدعا إليها أناسا من قومه وعمروها، أو استعمروها، وغيروا في طبيعتها واكتشفوا، فجأة رفاة إنسان هناك وبعض آثاره، فعلموا أنهم ليسوا أول من وصل هناك واكتشف الجزيرة المجهولة، لكن هذا لا يغير من الأمر شيئا، ذلك أن الاكتشاف الحقيقي الذي انبنت عليه نتائج وآثار هو الاكتشاف الأخير، وليس الاكتشاف الأول.

هذا بالطبع لا يقلل من عظمة ابن خلدون، فهو عبقرية فذة تحظى باعتراف المهتمين بتاريخ الفكر على مستوى العالم، ويكفي الاستشهاد في هذا السياق بما قاله علم من أعلام الكتابة التاريخية وفلسفة التاريخ في القرن العشرين، هو آرنولد توينبي Arnold Toynbee ، عن مقدمة ابن خلدون:"أعظم عمل من نوعه تم إبداعه حتى الآن من قبل أي عقل في أي زمان أو مكان". كما يوجد كم هائل من الكتابات التي تناولت نتاجه في لغات عديدة، وترجم عمله"المقدمة" إلى عدد كبير من اللغات. لكن الظروف الحضارية التي أحاطت بابن خلدون لم تكن لصالحه.

السؤال: لماذا ماتت البذرة التي زرعها ابن خلدون، وعاشت وازدهرت شجرة البذرة التي وضعها أوغوست كونت؟

والجواب يتمثل، بإيجاز، في أن ابن خلدون وضع بذرته في تربة حضارة محتضرة وأن بذرة أوغوست كونت زرعت في تربة حضارة ناهضة. لقد كان ابن خلدون واعيا بانهيار الحضارة التي ينتمي إليها وأفولها فحاول التنظير لأسس"العمران البشري والاجتماع الإنساني" قصد إيجاد سبل ووسائل لإنعاش هذه الحضارة واستئناف مسيرها، واتضح أن آوان الإنعاش قد فات فطُمر جهده تحت أنقاض هذه الحضارة التي كانت تتداعى. أما وعي أوغست كونت فقد كان وعيا بالنهوض الحضاري الذي يستدعي إدراكا و"ضبطا" لعمليات"العمران البشري والاجتماع الإنساني" فاحتضنت هذه الحضارة جهده وواصلت مسيرته وهي تواصل مسيرتها.