Atwasat

حواضن العلوم والمعارف

عمر أبو القاسم الككلي السبت 25 أبريل 2015, 10:19 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

لا تنشأ العلوم من فراغ. هي ثمرات جهود إنسانية لمواجهة احتياجات فردية متعلقة بجسد الإنسان، كالطب، أو احتياجات تنظيمية ومعاملاتية، كالهندسة والحساب، أو تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وبين الشعوب والدول، كالسياسة، وهكذا.

وفي العصر الحديث، مع توسع الظاهرة الاستعمارية، نشأت بعض العلوم استجابة لحاجات الدول الاستعمارية في ترويض الشعوب الواقعة تحت الاحتلال وتدجينها. أبرز هذه العلوم هو الآنثروبولوجيا Anthropology[علم الإنسان، أو الإناسة، مثلما يترجم أحيانا] وما يتفرع عنها من إثنوغرافيا Ethnography[وهو الدراسة الوصفية لثقافة شعب من الشعوب أو مجتمع من المجتمعات] وإثنولوجيا Ethnology[ وهو دراسة الأعراق والسلالات وخصائصها وانتشارها].

فهذا العلم نشأ وترعرع في حجر الاستعمار بهدف فهم ثقافات ونفسيات الشعوب (المتخلفة) المحتلة

فهذا العلم نشأ وترعرع في حجر الاستعمار بهدف فهم ثقافات ونفسيات الشعوب (المتخلفة) المحتلة والتعامل معها بمقتضى ذلك الفهم لتجنب ما يمكن أن تسببه من متاعب وقلاقل وخسائر للمشروع الاستعماري. وقد قدم بعض الآنثروبولوجيين الأوائل، طواعية، خدماتهم لإداراتهم الاستعمارية. فعالم الآنثروبولوجيا الإنغليزي البارز إيفانز برتشارد Evans Pritchard (1902-1973) عمل خلال الحرب العالمية الثانية ضابطا في الاستخبارات العسكرية البريطانية في شرق أفريقيا وإثيوبيا وليبيا وسوريا، وقام ببعض البحوث في هذه المناطق من ضمنها كتاب عن الحركة السنوسية في ليبيا:"السنوسيون في برقة"The Sanusi of Cyrenaica (1949) الذي يعد من أفضل كتبه. وينبغي ألا ننسى أيضا أن الدراسات الاستشراقية نشأت أيضا في هذا الإطار.

علاقة الآنثروبولوجيا والاستشراق بالتمدد الاستعماري في الأزمنة الحديثة واضح ومعروف. ولكن ماذا بشأن مبحث في الدراساتالإنسانية يسمى"الدراسات الإقليمية Area Studies"، وهو حقل دراسي متضافر الاختصاصات Interdisciplinary أو مبحث في الدراسات الأدبية، هو مبحث"الأدب المقارن Comparative Literature "؟

في كتابها"موت فرع معرفي Death of a Discipline" تقول المفكرة الأمريكية، هندية الأصل، غاياتري تشاكرافورتي سبيفاك Gayatri Chakravorty Spivak[وهي من أهم منظري دراسات مابعد الاستعمار Post-colonial Studies ودراسات التابع Subaltern Studies وقامت بترجمة كتاب جاك دريدا Jaques Derrida عن الكتابة Of Gramatology]:"أنشئت الدراسات الإقليمية في خضم الحرب الباردة ومُولت عبر منح فدرالية مدعومة من مؤسسات كبرى، بالأخص مؤسسة فورد." وهذا يعني أن"الدراسات الإقليمية تأسست لضمان تفوق الولايات المتحدة في الحرب الباردة" أما"الأدب المقارن فهو نتيجة لفرار مثقفين أوربيين من الأنظمة الشمولية".

وإذن، فحتى ماتبدو أنها فروع معرفية" بريئة" قد تكون لها صلة ما بسياسات ومشاريع الدول الساعية إلى الحفاظ على هيمنتها على العالم وتعميق هذه الهيمنة وتوسيع محيطها.

هذا مجرد إيضاح يؤكد أن العلوم والفروع المعرفية تنشأ وتتطور في سياق تفاعلات إنسانية في ميادين مختلفة وذات صبغات متنوعة، منها ما هو سلمي تعاوني ومنها ما هو تنافسي عدائي، ولا يعني، بأي حال، معاداة"العلوم الاستعمارية" وإنجازاتها، ولكن من الضروري البحث فيها وتمحيصها.