Atwasat

ترحال:العرب وشهوة التدمير!

محمد الجويلي الثلاثاء 21 أبريل 2015, 09:23 صباحا
محمد الجويلي

ثمّة ما يدعو لربّما أكثر من أيّ وقت مضى في حياة الإنسان المعاصر، لاسيما في العالم العربي، إلى طرح السؤال القديم الجديد المتعلّق بالأسباب العميقة التي تدفع رهطا من الناس إلى القتل والترويع، والتفنّن في ذلك دون وازع أو ضمير. قد يذهب البعض إلى القول بأنّ هذا الأمر ليس ظاهرة حديثة وإنّما هي عريقة، عراقة وجود الإنسان في الكون وأنّ ما يحدث في أرضنا العربيّة من انفجار للعنف الدموي وتقاتل ودمار قد حدث لدى شعوب أخرى، بما في ذلك الأوروبية الأكثر"تحضّرا" من الناحية التكنولوجيّة وتمدّنا في مؤسّساتها السياسّة والاجتماعيّة، سواء تعلّق الأمر بالحروب الدينية والطائفية التي اندلعت مثلا بين الكاتوليك والبروتستان منذ القرن السادس عشر والتي كادت أن تبيد في فرنسا البروتستان على آخرهم بعد قتل الآلاف منهم، أو ما حدث في ما أطلق عليها الحرب العالميّة الثانية، التي كانت في الحقيقة حربا أوروبية صرفة وقعت عولمتها بالقوّة، والتي راح ضحيتها أكثر من 50 مليون نسمة، أي ما يعادل اليوم تقريبا عدد أفراد أمّة كاملة من الأمم الأوروبية المعروفة، ولكن هذا لا يمنع الكثير من العرب والمسلمين اليوم الذين ليس لهم بالضرورة معرفة بالتاريخ وبطبيعة الإنسان عموما وميله إلى التخريب أن يتساءلوا في مرارة وحيرة لا يجدون لها تفسيرا- وهذا ما نستمع إليه في الشارع والسوق وفي المجالس الخاصة وفي بعض نداءات الاستغاثة على شاشات التلفزيون- عن السبب الذي يجعل أرضهم دون غيرهم مسرحا في بداية هذا القرن لأكثر الأساليب توحّشا وتفنّنا في تنكيل الإنسان بأخيه الإنسان من ملّته وبني جلدته.

إنّ حدوث شبيه ما نعيشه اليوم في العالم العربي والإسلامي لدى شعوب أخرى في العصر الحديث لا يبرّر إطلاقا حدوثه عندنا، لا سيما وأنّنا نعتبر أنفسنا خير أمّة أخرجت للناس وأنّ البعض ممّن استبدّت بهم شهوة التدمير كما لم تستبدّ بغيرهم هم من المفترض- وهذا عين المفارقة- الأكثر إيمانا بهذه الأفضليّة التي أصبحت في عداد الماضي وأمجاده والتي تثبت الوقائع وعلى مرّ التاريخ نسبيتها الشديدة عندما نستحضر مثلا الطريقة التي قُتل بها خليفة المسلمين الثالث عثمان بن عفان كما يصفها الجاحظ قائلا"ومن خبطهم إيّاه بالسلاح، وبعج بطْنه بالحِراب وفري أوداجه بالمشاقص، وشدخ هامته بالعمد... ومع ضرب نسائه بحضرته، وإقحام الرجال على حُرْمته.... مع وطئهم في أضلاعه بعد موته، وإلقائه على المزبلة جسده مجرّدا بعد سحْبه"( رسالة في بني أميّة ضمن كتاب تقي الدين المقريزي في النزاع والتخاصم بين بني أميّة وبني هاشم، تحقيق حسين مؤنس، مصر، دار المعارف 1988 ص.123) هذه الطريقة التي لا نجد لها مثيلا في قتل رجل تربّع على سدّة الحكم في أعلى هرم الدولة في تاريخنا المعاصر إلّا الطريقة التي قُتل بها معمّر القذافي وإلقاء جسده مجرّدا، ما عدا من خرقة تستر عورته وملطّخا بالدماء بعد شدخ هامته بالعمد في قاعة فسيحة لعدّة ايّام يتسابق الزائرون مصحوبين أحيانا بأطفالهم في متحف الموت يلتقطون صورا للذكرى مع جثّة القذافي وليس مع القذافي نفسه كما كانوا يتوهّمون.

هل أنّنا العرب والمسلمين أكثر شهوة من غيرنا من الشعوب إلى التدمير وإراقة الدماء كما تذهب بعض الآراء العنصريّة البغيضة التي تُسوّق في بعض وسائل الإعلام ووسائل الاتصال الاجتماعي التي تذهب إلى حدّ اعتبار العرب والمسلمين كلّهم إنْ لم يكونوا داعشيين فهم جيش احتياطي، خلايا نائمة لداعش؟

كلّا وكلّا. إذا كان ثمّة شهوة(Passion) تتساوى فيها البشريّة على اختلاف أجناسها وأديانها وثقافاتها بالإضافة إلى شهوات أخرى، منها ما هو إيجابي ويا لحسن الحظّ وأوّلها هي شهوة الحبّ، لن تكون بكلّ تأكيد إلّا شهوة التدمير، التفنّن"المرضي بالطبع" في القتل والتعذيب. فكما استحضرنا في تاريخنا الطريقة التي قُتل بها الخليفة عثمان ومعمر القذافي وكذلك قائد الطائرة الأردني وجثث الجنود في جبل الشعامبي دون نسيان التنكيل في تونس كذلك بأجساد بعض الإرهابيين، وما عادوا في الحقيقة بإرهابيين، وإنّما جثث هامدة بكلّ بساطة لا هويّة لها، عدا هويّة الموت، نستحضر كذلك الطريقة التي قُتل بها الفرنسيون الذين ثبت تورّطهم في العمالة للعدوّ النازي بعد تحرير فرنسا على أيدي الوطنيين من أبناء بلدهم الذين كان البعض منهم لا يتورّع على قطع العضو التناسلي لضحّيته ووضعه في فمه الفاغر بعد موته، بالونة مثل بالونات الأطفال التي يلهون بنفخها في الأعياد، بحيث تمتزج في الصورة احتفالية الحياة بالموت في أرقى أشكالها عبثيّة وإثارة للقرف والتقزز.

هناك حقيقة إذن لا يرقى إليها الشكّ تتمثّل في أنّ البشر على اختلاف أجناسهم وأديانهم تستبد بهم شهوة التدمير وأنّ هذه الشهوة لا تبلغ أرقى درجات استبدادها بالإنسان فردا وجماعة إلّا إذا تهيّأت لها الظروف لذلك والأكثر من ذلك ـ وهذه مفارقة أخرى- أنّها تبلغ مبلغها من الشدّة والقسوة كلّما قطع الإنسان شوطا مهمّا في تقدّمه التكنولوجي وسيطرته على الطبيعة.

الإنسان، وعلى خلاف كلّ الحيوانات الأخرى، ليس حيوانا ناطقا فحسب وإنّما هو حيوان قاتل بامتياز

الإنسان، وعلى خلاف كلّ الحيوانات الأخرى، ليس حيوانا ناطقا فحسب وإنّما هو حيوان قاتل بامتياز، كبير القتلة والمجرمين في هذا الكون، هذه حقيقة صادمة كثيرا ما تتناساها البشريّة وتتعامى عنها لأنّها تخدش نرجسيتها وتنغّص عليها لحظات المتعة التي تعيشها إلى أن يندلع العنف وتسيطر متعة القتل على متعة الحبّ ولا يعود بالإمكان إخفاؤها كما هي الحالة التي نحن،العرب والمسلمين، عليها اليوم. إنّ عدوانية الإنسان تفوق بكثير عدوانية الحيوان غير الناطق وهي ليست عدوانية غريزية ومن طبيعته كما يذهب إلى ذلك فرويد(Freud) متسرّعا على حدّ تعبير عالم النفس الألماني اريك فروم(Eric Fromm) في كتابه " في تشريح العدوانية الإنسانية"(The anatomy of human destructiveness) وإنّما هي عدوانيّة خاصة به ثقافيّة وحضارية، بمعنى نشأت بنشأة الحضارة وتتطوّر وتستفحل بتطوّرها. فلا بدّ من التفريق، حينئذ بين العدوانية الدفاعيّة الغريزية، التي يشترك فيها الإنسان مع العديد من الحيوانات الأخرى وليس هدفها ممارسة متعة التدمير وإنّما الحفاظ على النفس ولضمان البقاء، والعدوانية التدميريّة الخبيثة التي هي في الجوهر إنسانية صرفة ولا يشاركه فيها أي من الأنواع الأخرى من الحيوان: فالإنسان وحده يبدو ميّالا إلى التدمير واستعمال العنف فيما يتجاوز حاجته الطبيعية للدفاع عن نفسه أو للحصول على حاجاته الوجوديّة التي يتطلّبها بقاؤه على قيد الحياة. فإذا تتبعنا مسيرة الإنسان وعدنا إلى العهود القديمة السحيقة نقتفي خطواته على طريقة الانتروبولوجيين وصولا إلى مرحلة الحضارة للاحظنا أنّ الأعمال الإجرامية العدوانية التي يقترفها بنو آدم تتنامى مع تقدّمهم الحضاري في حين أنّهم في العصور القديمة كانوا أقلّ بكثير ميلا للتحارب والتقاتل.

كانت البشرية لعهود طويلة في مرحلة الصيد والزراعة البدائيّة مسكونة بهاجس قوتها اليومي وبما يفي بالضروري والحاجي في حياتها إلى أن جاءت الحضارة الصناعيّة التي نعيشها اليوم في أرقى درجات تطوّرها والتي كان فيها الإنسان أشدّ فتكا بأخيه الإنسان من أي مرحلة سابقة في تاريخه. كان البشر ميّالين على مرّ تاريخهم أكثر للتعاون والتضامن والتآزر لضمان بقائهم، بحيث كان تعاونهم ضرورة اجتماعية ووجوديّة إلى أن دبّت فيهم الفتن الواحدة تلو الأخرى نتيجة الجشع للسلطة والمال، فإذا ثمّة ميل طبيعي وغريزي للإنسان، فلن يكون إلّا للتعاون مع بني جنسه وليس قتلهم وإبادتهم ولذلك فإنّ هذه العدوانية الخبيثة والشهوة للتدمير التي هي من خاصيات الإنسان وحده لا يمكن فهمها إلّا باعتبارها سلوكا اجتماعيا ثقافيا، لا سلوكا غريزيا"بيولوجيّا" جُبل عليه الإنسان بالفطرة.

وإذا كانت هذه العدوانية الخبيثة تجد اليوم في الأرض العربيّة تربة صالحة ليس مثلها أيّ تربة أخرى في العالم للترعرع والنمو وأنّ شهوة التدمير قد استبدّت بالبعض من أبناء جلدتنا على نحو لم يسبق له مثيل في هذا القرن حتّى أصبحنا مضرب الأمثال في التوحش والهمجيّة، فليس معنى ذلك أنّنا جُبلنا على ذلك أكثر من غيرنا من بني آدم وإنّما لأنّنا اليوم كما كان غيرنا بالأمس قد هيّأنا الظروف الموضوعيّة لذلك: الفقر والحيف الاجتماعي والأمّية والجهل والتأويل الخاطئ للدين، التناحر الطائفي والمذهبي والقبلي وغيرها من العوامل الداخلية والخارجية التي زادت في صبّ الزيت على اللهيب. الآن الأرض العربية تحترق وشهوة التدمير بلغت أشدّها ولكن هذا لا يعني أنّ هذه الحالة قدر مسلّط علينا. بمعالجة العلّة ينتفي المعلول.