Atwasat

الحياة تضحك والتاريخ يتجهم

سالم العوكلي الإثنين 20 أبريل 2015, 08:59 صباحا
سالم العوكلي

تتعدد الأسباب التي أدت إلى انتفاضة فبراير الليبية، لكن البعض يعزو السبب المباشر لتلك السخرية القاسية من الليبيين، إذ انتقلت الثورة من تونس إلى مصر دون أن تمر بليبيا، فتهكم أحد التوانسة بما أصبح نكتة تروج في الشارع الليبي: أرجو من الليبيين أن يخفضوا رؤوسهم قليلا لنرى الرجال في مصر. ذلك الشعور بالإهانة هو الذي جعل الهتاف الأكثر انتشارا أثناء الانتفاضة: ارفع راسك فوق أنت ليبي حر.

إبان الاحتقان الشعبي القديم، وأقول القديم لأن ثمة احتقانا شعبيا جديدا، كانت تروج نكتة عن أحد الأعضاء المُصعَّدين في مؤتمر الشعب العام، حيث كانت تُطرح في الجلسة مشاكل الدولة الليبية في كل القطاعات؛ في التعليم أو الصحة أو الزراعة أو البنية التحتية، وكلما تحدثوا عن قطاع معين ينخره الفساد، يرفع العضو يده ويقول: الحل في استكمال طريق إجدابيا– طبرق، وأحدٌ لم يفهم شيئا، وربما اكتفوا باعتباره شخصا ساذجا أو مجنوناً أتت به الديمقراطية المباشرة صدفةً تحت هذه القبة، مثلما أتت الديمقراطية غير المباشرة بالكثير من الحمقى إلى قبة البرلمانات الشرعية وغير الشرعية بعد فبراير. المهم اتضح أن هذا الشخص الطيب كان قد رأى رؤيا، وتفسيرها أن القذافي سيموت في حادث اصطدام بطريق اجدابيا- طبرق، وهو كغيره من الليبيين البسطاء كان يرى حل كل مشاكل ليبيا في موت القذافي.

وأخيرا مات القذافي في الطريق بين سرت ومصراتة إثر حادث اصطدام مروع بين سيارته ذات الدفع الرباعي وسرب من طائرات الناتو، ورغم محاولة إنقاذه من مسعفي مصراتة إلا أنه لفظ أنفاسه الأخيرة في الطريق. اكتملت طريق اجدابيا طبرق، وأصبحت الآن السبيل المتاح لحركة الهجرة والنزوح الذي لم يهدأ بين المناطق الليبية. يبدو أن ثمة خطأ تاريخيا في تفسير منام العضو المُصعد الطيب.

الفكاهة روح العصر الحديث، لا أعرف أين قابلتني هذه العبارة فيما قرأت، لكنها مكثت في ذهني كاقتباس معقول دون أن تحتفظ الذاكرة بمصدرها. فهل تعني هذه العبارة أن العصور القديمة خالية من روح الفكاهة؟ أم أن مدوني التاريخ المتجهمين يهملون الفكاهة من باب الحرص على وقار التاريخ والتأكيد على جدية الفعل البشري ورزانته. تنقية التاريخ من روح الفكاهة(النكتة) المُشرَّب بها، وجَعْلُه عابساً، تبدو في حد ذاتها نوعا من الفكاهة، وكم يضحكنا شخص متجهم وهو يروي وقائع يومه التافه بجدية صارمة، يقول كونديرا:"لن يفهم أحد الهزل دون أن يفهم العبوسيين، فوجودهم يمنح الهزل أهميته القصوى"1.

على المستوى الشعبي كثيرا ما يُعزى انتشار النكتة بين الناس إلى واقع متدهور، سياسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا، باعتبار الضحك أنجع السبل لمعالجة الهموم . يُروى أن أحد المصريين، العائد من ليبيا، كان يتحدث لصديقه عن انتشار النكتة في الشارع الليبي، فقال له: جاعوا أولاد الكلب. كنا نضحك من هذه الطرفة، وشحنة الطرافة فيها لم تجعلنا نلتفت إلى وصفنا بأولاد الكلب، وهنا يكمن أحد تكتيكات النكتة الذكية لتسريب الإهانة في قالب من الضحك، وهنا تكمن حقيقة أن الفكاهة أكثر التكتيكات نجاعة من أجل تقويض المقدس.

ما جعل ثورة يناير المصرية مميزة ومُعدية هي سيطرة روح النكتة الأصيلة لدى المجتمع المصري على شعارات ولافتات وهتافات هذه الثورة، بشكل أحالها إلى مظهر درامي إبداعي تتابعه عن كثب نشرات الأخبار، وبشكل ألهم بعض مجتمعات أخرى إمكانية تقليد هذه الظاهرة التي انفرد بها مجتمع اشتهر بخفة الدم، حتى وإن كان على حافة الموت جوعاً.

الثورة الليبية كانت وليدة نكتة، وهذه المرة لم ينجح الضحك في إخفاء الإهانة خلفه، وحتى الآن لا أعرف السبب، ولكن ما أعرفه أن الليبيين ما كانوا جوعى حين انتشرت النكتة بينهم، لكننا إلى حد كبير مجتمع مشيد على مفارقة أساسية، تتعلق بنرجسية طاغية حد الغرور ممزوجة برغبة مضمرة في جلد الذات. فالتهكم على الذات ممكن، لكن أن يأتي من الخارج فإن النكتة في هذه الحالة لا تؤدي إلى الضحك المر فقط، ولكن إلى ثورة مسلحة لا تعرف التوقف. هل أبالغ في عزو الثورة الليبية إلى نكتة؟ بالطبع ثمة مبالغة كبيرة، لكن ما حدث في النهاية أن الثورة التي أوقدت شرارتها فكاهة، سيطر على من قادوها، بعد نجاحها، حالةٌ شاملة من التجهم الأصيل في الشخصية الليبية، لتأخذ مسارها العابس حتى الآن. غير أنه على هامش هذا التجهم الرسمي يمكننا أن نلمس روحا مختلفة من الفكاهة تتفشى في الشارع الليبي، وفي مواقع التواصل(فنحن لم نَجُع لكننا أحبِطنا) وهو انتشار يشي بالعودة من جديد إلى ظاهرة التنفيس العامة التي اقترحها الليبيون إبان عقود من القمع ومن مصادرة حرية التعبير، فالنكتة تظل عملا إبداعيا قابلا للانتشار بسرعة دون أن يُعرف مؤلفه، وهي بالتالي أكثر وسائل التعبير انتشارا وأمانا في الوقت نفسه، كمحاولة لقهر الخوف، ولتصفية الحساب مع نُظُم تستمد حيويتها من رهبة تقديسها من قبل المجتمع الورع حد الخشوع لها. لذلك أول ما لفت نظر الكاتب الفرنسي برنار- هنري ليفي حين وصوله إلى ليبيا بداية الانتفاضة، الرسوم الكاريكاتيرية للقذافي على الجدران التي اعتبرها في مستوى رسوم شارلي إيبدو، وأن المضحك فيها هو الذي انتصر على الخوف، وهي، كما يقول:"برهان على أن الديكتاتورية يمكن أن تهلك في التهويل، الضحك، وفي الموهبة"2.
يقول ميلان كونديرا:"حين يميل العبوسيون إلى أن يروا في كل مزحة تدنيسا للمقدس، فذلك لأن كل مزحة هي في الواقع انتهاك للمقدس. ثمة تعارض نهائي بين الهزلي والمقدس"3. المقدس هنا لا يعني ما هو داخل المعبد، ولكن ما سوف ينسحب على تطقيس مظاهر اجتماعية وسياسية عدة، تجعل مفاهيم العيب والمحرم والخيانة ميزانا أساسيا للحكم على كل ما يمس الاتفاق الجمعي. لعبة الأدب الأثيرة هي التهكم على كل هذه القداسات، وعلى مر تاريخ الأدب، الروائي والمسرحي خصوصا.

في روايتي(اللحية) اعتمدت على فكاهتين كانتا دارجتين في الشارع الليبي، تلك الفترة، كمرتكزين أساسيين لما تحاول أن تقوله الرواية

في روايتي(اللحية) اعتمدت على فكاهتين كانتا دارجتين في الشارع الليبي، تلك الفترة، كمرتكزين أساسيين لما تحاول أن تقوله الرواية، الفكاهة الأولى تروي أن مواطنا رومانسياً كان يصطحب عروسه للخروج في نزهة، فترة انتشار البوابات بكل أجهزتها على الطرق، قال له أحد مسؤولي البوابة حين أوقفه: أين تذهب بهذه العاهرة؟! فانفعل الزوج وتشاجر معه، تدخل أحدهم من جهاز أمني آخر وقال لرفيقه اقبضوا عليه هو والعاهرة وانقلوهم إلى البحث الجنائي، وبمجرد أن سمع الإهانة من جديد تشاجر مع المسؤول الثاني، وكل مرة يصرخ: احترموا أنفسكم.. إنها زوجتي. ومع التكرار شتم الوضع برمته والنظام وكل شيء، وهنا تدخل أحد رجال الأمن الداخلي ونقله إلى المقر المرعب. في ممر المقر كان ينتظر مع مجموعة أخرى من الموقوفين، اقترب منه أحد رجال الأمن، وقال له: هل أنت من مزق صورة القائد؟ فرد بهدوء: لا.. أنا زوج العاهرة. عندما سمعت هذه الطرفة، أول مرة، لم أستطع الضحك، لكنها زلزلت كياني بكل مستويات التأويل فيها، عن الحد الذي تُقرر عنده التنازل عن أكثر مبادئك صداحاً، وعن اندحار الكرامة الشخصية أمام سلطة الخوف والتقديس، وعن مفهوم الخيارات الضيقة المتاحة للإنسان في لحظة ما.

الفكاهة الثانية كانت تدور فترة الصدام في منتصف التسعينيات بين النظام والجماعة الإسلامية المقاتلة في درنة، وهي كما وردت في الرواية" كان أفراد(الجماعة الإسلامية المقاتلة) الهائمون في الوديان يفضلون(الزميتة) كطعام جاف ومغذٍ وسهل الإعداد، وكل مكان يتم اقتحامه يجدون فيه أكياساً منها، وبعض المتعاونين معهم كانوا يزودونهم بتلك الأكياس، الأمر الذي جعل الأجهزة الأمنية تُصدر للمطاحن تقنيناً لبيع الزميتة بكميات قليلة للزبائن، النكتة تقول أنه في إحدى البوابات عندما فتشوا الصندوق الخلفي لإحدى العربات وجدوا به كيساً بلاستيكياً مربوطاً، فأصاب السائق رعب كبير لأنه كان قد استعار سيارة صديقه ولا يعرف ما بها، وعندما فتحوها وجدوا أن الكيس مملوءا[كذا]* بالمخدرات، فتنفس سائق السيارة الصعداء وحمد الله أنها مخدرات وليست زميتة"4 .

ومن جديد، تلك الخيارات الصعبة لا يمكن أن تظهر إلا في جو هستيري تجاه ظاهرة مربكة عادة ما تكون جديدة. حين لا يكون أمامك سوى أن تختار بين الصعب أو الأصعب منه، بين ما يفضي بك إلى السجن أو ما يفضي بك إلى قبرك المجهول، تغدو الفكاهة هنا، رغم قسوتها، نوعا من التهكم على هشاشةِ ما يبدو في الظاهر إمبراطورية منيعة شيدها الخوف لا أكثر.

إن روح الفكاهة التي تنتشر الآن ليست مجرد نكتة ملفوظة يعقبها ضحك، لكنها حالة شاملة من عروض الهزل. الهزل حين يكون في ذروة تبجحه، يجعلنا نضع العبوسيين الذين يقودون المرحلة في قلب السخرية.

فمجرد أن ينتقل شخص من حفرة لتغيير زيوت السيارات إلى زعيم سياسي كبير، نكتة. وبمجرد أن تمتليء قنواتنا بمحللين سياسيين لا يصلحون حتى لتحليل البول، نكتة. مع احترامي لتحليل البول كأحد علوم الكيمياء.

وأن يَعزل جماعةٌ كانوا في ظل النظام ومعه- وحتى آخر لحظة من عمره- مناضلين عارضوا النظام لعقود، نكتة.

أن يضع الليبيون الثائرون على النظام الغاشم أهدافا عظيمة لثورتهم، مثل ؛ الديمقراطية والدولة المدنية وحرية التعبير وتداول السلطة والحقوق الكاملة للإنسان المواطن، ثم تصبح مطالبهم الحصول على الخبز والوقود وإزالة القمامة من الشوارع، نكتة.

أن يطالب الثائرون بحرية التعبير كحد أدنى لأهدافهم، ثم فجأة يصبح مطلبهم الوحيد حرية الشهيق والزفير، نكتة.

أن يكون لأمة، مثل الهند، يتجاوز عدد سكانها المليار، وتتكون من آلاف القوميات واللغات والأديان، برلمان واحد شرعي وحكومة واحدة، بينما لأُميمة مثل ليبيا، يعادل سكانها قاطني إحدى عشوائيات الهند، برلمانان وحكومتان، نكتة.

أن يكون في واجهة هذه المرحلة الانتقالية الكبرى، وفي الألفية الثالثة، أسماء نكرات، شبه أمية، لا تملك القدرة على قيادة حتى قطيع ماعز صغير، نكتة.

غير أن هذا المناخ الفكاهي برمته ملوث بالدم والجثث، وهنا يكتسب الهزل بعده التراجيكوميدي الذي كان وراء سرديات إبداعية كبرى، منذ رواية دونكيشوت لسرفانتس حتى رواية حفلة التيس ليوسا. فهل ثمة ظاهرة اجتماعية تقف وراء كل هذه المفارقات؟ هل ثمة مقدمات لكل هذا الهزل الذي يطبق على الحدث برمته؟.

أن يظهر في مصر بلد الفن والموسيقى الخالدة، ذلك الفن العظيم الذي رعته ذائقة وجيوب الطبقة الوسطى،(مطرب) تباع أسطواناته بالملايين، ويسير محروساً في الشارع في موكب ملكي، مثل شعبان عبدالرحيم، فالأمر في مجمله نكتة، حتى وإن سالت دماء الفن الحقيقي على جوانبها. شخص أمي، يبصم على عقوده بالإبهام، لا يملك أدنى حد من مقومات الصوت، ولا معرفة بأبجديات الموسيقى، تظهر ملابسه كمهرج غير محترف، يغدو فجأة سيد الساحة الغنائية في دولة مثل مصر، ويصبح صيدا ثمينا لبرامج الحوارات الفنية من أجل انجاز حلقة كاملة من الهزل. هل كان يقف وراء ذلك عصاميته كمكوجي أمي بائس تحول في أقل من سنة إلى نجم مليونير؟ هل كان للمتعاطفين معه من أنصار الطبقة الكادحة دور في هذا الصعود الأسطوري؟. مهما بحثنا عن الأسباب فإن ظاهرة تطفيح الرديء تفشت في مجتمعنا والمنطقة منذ فترة ليست قصيرة، جعلت ساحتنا السياسية تُفرخ يوميا العديد من الشعبانات الذين تحولوا إلى نجوم سياسية واجتماعية في غضون سنة واحدة. ليس بداية من بوكا ولا نهاية بناكر. سلسلة طويلة من شبه الأميين البسطاء الذين كانوا يجيدون مهنا محددة في حياتهم، يصبحون فجأةً في ظل ذائقة سياسية رديئة نجوم المرحلة، والمتحدثين باسمها، بل والمدعوين إلى طاولات الحوار المحلية والإقليمية والعالمية، بل سيتربعون على أغلفة أشهر الصحف والمجلات في العالم منذ الأيام الأولى للحراك. لن أقول كل هذا كان مؤامرة، لكنها الفكاهة الشاملة روح العصر الحديث، والنكتة التي كانت وراء أحداث تاريخية كبرى بما فيها ثورتنا نفسها.

يقول أحد الشيوخ المشهورين بالنكتة والتهكم، من مدينة البيضاء، حين كان في وسط الزحام على اسطوانات الغاز، واستفزه أحد الحاضرين بسؤال عن رأيه في ما حدث من تغيرات بعد ثورة فبراير المباركة، يقول: أكيد حدث تغيير. زمان، أيام النظام، كنا ناخذو فيه بالتفال وتوا من غير تفال . وتذكرت أنه، في فترة ما، كان المواطن الحريص يبلل صمام الأسطوانة بلعابه ليتأكد أنها لا تُسرب الغاز، أما الآن فلا توجد فرصة حتى لهذا الطقس الشعبي اللطيف، المهم أن تحصل على أسطوانة بأي وزن وبأي سعر. ويعيدني هذا لذكاء التهكم حين يختزل مفهوم التنازلات التي لا تتوقف في مجتمع لا يجيد السير إلى الأمام، ولم يدرك بعد أبجديات التقدم.

وتظل للفكاهة وروح السخرية فضيلة كبرى، كونها تقف على طرف نقيض من التقديس. مع النكتة لا شيء دنيويا مقدسا، لا ثورة فبراير، ولا الثوار، ولا أبطال التاريخ، ولا أمراء الحروب ولا شهداؤها. إنها خطوة نحو الديمقراطية التي تشترط، من أجل أن تبدأ، نزعَ هالة التقديس عن كل من استخدموها أو سوف يتخذونها أداة لقمع الشعوب وقهرها.

1. ميلان كونديرا. الستارة . ترجمة معن عاقل . ورد للنشر والطباعة والتوزيع دمشق.

2. برنار- هنري ليفي. الحرب ولو لم نحبها:

3. ميلان كونديرا. الستارة . يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي. ترجمة د. سمر محمد سعد. دار بدايات، سوريا.

4. سالم العوكلي. اللحية. رواية، الدار العربية للعلوم ناشرون. بيروت.

* الصحيح: مملوءٌ. لكن تركناها كما هي لأن الفقرة مقتبسة من كتاب منشور.(المحرر).