Atwasat

دليل جارح وقاتل

عمر أبو القاسم الككلي السبت 28 مارس 2015, 11:24 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

أثناء انعقاد جلسات المحكمة للنظر في قضيتنا بين سنتي 1979 و1980 كان كثيرا ما يتم النظر في قضايا أخرى من قبل نفس الهيئة القضائية وبحضورنا. كانت هذه القضايا في معظمها جنائية عادية وكان القليل منها"قضايا سياسية" محالة من قبل"نيابة أمن الثورة".

في إحدى الجلسات تم النظر في قضية اتهم فيها أربعة شباب بأنهم أنشأوا تنظيما يهدف إلى قلب نظام الحكم. كانوا معنا في السجن وكان اثنان منهم طلبة أحدهما نابغ وكانت لديه بعض المخترعات، قال أنه في التحقيقات من قبل"نيابة أمن الثورة" قيل له أنه كان يجهز لاختراع قنبلة طائرة يتم بواسطتها اغتيال معمر القذافي! لكن الغرابة ليست هنا.

الغرابة في أن شخصا خامسا كان مزروعا بينهم وكان ينقل عنهم تقارير وتسجيلات صوتية لمدة سنة كاملة، وفي النهاية ورد في نص اتهام"نيابة أمن الثورة" لهم"أنهم وآخرون..." إلخ!.

تتبع وترصد ومراقبة، وفي النهاية أربعة(خامسهم مخبر) في اليد وآخرون من غير المعروف على أية أشجار يزقزقون! كم عدد هؤلاء الآخرين؟ هل هو أصغر من عدد المقبوض عليهم أم مساوٍ له أم أكبر منه؟ ما هي أسماؤهم وصفاتهم وأين يتواجدون حينها ولِمَ لَمْ يقبض عليهم؟... هذه أسئلة لا تطرح. ولازمة"أنهم وآخرون" كانت ترد في معظم التهم التي تتولاها"نيابة أمن الثورة" إن لم يكن كلها. في قضيتنا أيضا كانت هذه اللازمة متربعة في صدر التهمة، ويبدو أنها حيلة لترك القضية مفتوحة على احتمال إضافة أشخاص جدد، إذا استدعى المزاج ذلك!

هذه الاستهانة بالمصائر، التي كانت متبعة بشكل ممنهج من قبل النظام ومؤسساته، لا يبدو أنها إبداع من إبداعاته مقتصرة عليه وحده

الشباب الأربعة كانت موجهة لكل منهم تهم متفرعة عن التهمة الأساسية، تهمة التنظيم. أحد المحامين في القضية عبر في مرافعته عن استغرابه من استسهال النيابة لتوجيه التهم واستهانتها بمصائر الناس وأرواحهم بحيث أنها وجهت إلى موكله الذي هو"فرخ يلعب"(حسب تعبيره) أربع تهم جزافية أي واحدة منهم كافية لقطع رأسه. ناهيك طبعا عما تلحقه هذه الاستهانة بالمصائر والأرواح في توجيه التهم من أذى مادي ومعنوي لأسر المتهمين، سواء كان هؤلاء المتهمون عائلين أو عالة.

هذه الاستهانة بالمصائر، التي كانت متبعة بشكل ممنهج من قبل النظام ومؤسساته، لا يبدو أنها إبداع من إبداعاته مقتصرة عليه وحده. بل إنها كانت تتحرك ضمن أرضية ثقافية ووجدانية متأصلة تقبل بها وتبررها. لسنا من الذين يمكن أن يمضوا إلى القول بأن الشعب الليبي برمته وراء هذا التوجه، ولكننا نقول بأن ثمة مساحة لا يستهان بها من ثقافة هذا الشعب(من ثقافة المنطقة، بالأحرى) ومزاجه العاطفي تقبل بهذه الممارسة وأن ثمة أعدادا، لا يستهان بها أيضا، من الليبيين مستعدة لممارسة هذه الاستهانة براحة ضمي!.

ما يجري الآن على الأرض الليبية بكاملها من استهانات وشناعات وبشاعات، فاقت حد التصور، في السنوات الثلاث التي أعقبت الإطاحة بنظام معمر القذافي، دليل أكثر من دامغ. إنه دليل جارح وقاتل.