Atwasat

فن صناعة الكذب: قناة الجزيرة مثالاً

سالم العوكلي الخميس 26 مارس 2015, 10:33 صباحا
سالم العوكلي

يقول بيار بورديو في كتابه(التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول):"هؤلاء الذين لا يزالون يعتقدون بأنه يكفي القيام بالتظاهر بدون احتلال شاشة التلفزيون يخاطرون بأن يفقدوا ضربتهم المستهدفة".

شكل التنافس على السبق الصحفي وهاجس الاستحواذ على أعلى درجة من الإقبال(الأوديم) أساس التنافس بين القنوات الفضائية في صراعها من أجل احتكار الرأسمال الشعبي، وبالتالي التأثير المباشر في الرأي العام والحصول على حصة الأسد من إعلانات الشركات الكبرى المتحكمة في وسائل الإعلام. ومع بداية ظاهرة ما سمي بالربيع العربي كان هذا الفضاء الإعلامي المترامي يتأهب للانقضاض على هذا الحدث الخصب، عبر تنافس جنوني، كثيرا ما يضحي بالمهنية والمصداقية لصالح الإثارة والسبق الصحفي. ولعبت المصادفة دورها في أن تحوز قناة الجزيرة على سبق الإعلان عن بداية الحراك في ليبيا.

في كتابه(سيرة فبراير)، يرصد الكاتب إدريس المسماري اللحظات الأولى من تواصل انتفاضة فبراير مع شاشة التلفزيون، وبانتباه الصحفي المخضرم والسياسي في الوقت نفسه، أدرك أن هذا الحراك الذي بدأ في بنغازي، سيُقضى عليه في مهده إن لم ينتقل من الميدان إلى الشاشة، يقول المسماري:"قبل 300 متر من وصولنا إلى(ميدان الشجرة) العاجّ بالمتظاهرين، دخلنا بالسيارة لإيقافها، والتحرك مشياً. قبل نزولنا أخبرت نوري وخالد بما كان يدور في رأسي، قلت لهما : سأتصل بإحدى الفضائيات لإخبار العالم بما يجري. وافقاني على الفور، وتركاني أحاول الاتصال، وذهبا إلى الشارع الرئيسي.". اتصل إدريس بصديقه الناشر محمد هاشم الذي يتجمع لديه في دار ميريت العديد من المثقفين وبعض مراسلي القنوات الفضائية، والذي بدوره ربطه بقناة الجزيرة.

ثم بدأت حمى التنافس عبر هطول الاتصالات على إدريس من قنوات أخرى تسعى لتفاصيل أكثر، ولم يفكر المتنافسون على السبق في حياة من يتصلون به وحياة أسرته المعرضة للخطر في تلك اللحظة، لكن لا يهم الثمن الذي يُدفع في حمى التنافس على السبق، الذي فازت به حتى تلك اللحظة قناة الجزيرة، لكن عملاً كثيرا مازال ينتظرها كي تحافظ على هذه المسافة في ماراثون التلاعب بالعقول وبالأحداث، ومن هذا المنطلق سأروي بعض مظاهر التلاعب من قِبل قناة الجزيرة عايشتها في هذه الحمى الإعلامية التي تواطأت مع هيجان شعبي في الشارع، جعله يهتف لقناة الجزيرة وشهيدها أكثر من الهتاف للوطن وشهدائه.

يوم 17 فبراير 2011 قام بعض الشباب في درنة بتهريب منظومة إنترنت (تو وي) وتركيبها بشكل سري في بيت درنة الثقافي، المنظمة المدنية التي كنت أرأس إدارتها، ومن هناك بدأ التواصل مع الجزيرة وبعض القنوات الأخرى وإرسال الكثير من مقاطع الفيديو للحراك في درنة وبعض المدن المجاورة.

يوم 20 فبراير، اتصلت بي، من طرابلس، الصديقة الصحفية، سالمة المدني، منفعلة، تطلب مني الاتصال بقناة الجزيرة لأنها تتعرض لخدعة من قبل النظام، أو ما يمكن تسميته بكمين إعلامي، حيث تتواتر الاتصالات على قناة الجزيرة من قبل أشخاص مجهولين، تحت تسمية شاهد من عين المكان، وكلهم نساء ورجال يقولون نفس الكلام حرفيا: المظاهرات في طرابلس تتعرض لقصف جوي بقنابل من اللهب، والقتلى بالمئات. وأخبرتني الزميلة سالمة أن الاتصالات مقطوعة على طرابلس وهي تحدثني من تاجورا، وأن لا صحة لما يقوله الشهود، وهي مؤامرة من أجل ضرب مصداقية الجزيرة. لكن هذا الخبر الكاذب الذي نقلته الجزيرة أصبح فيما بعد حقيقة، لأن الجميع في ذلك الوقت يصدق ما يريده وليس الحقيقة. وهو الخبر الذي جعل الفرنسي برنار– هنري ليفي، كما يقول في بداية كتابه(الحرب دون أن نحبها: يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي)، يغير وجهته ويشد الرحال إلى ليبيا، راسماً صورة تفصيلية من الخيال السينمائي تؤكد قصف طائرات السوخوي لجموع المتظاهرين.

تحت تاريخ، الأربعاء 23 فبراير 2011 يقول ليفي:"كان هذا قبل أمس. كنت مع جيل هرتزوق، في القاهرة، عائدين من إعداد تقرير صحفي لصحيفتي الليبيراسيون ونيويورك تايمز سانديكات. وعلى شاشة تلفزيون في المطار، رأيت فجأة طيارات حربية في ليبيا تنقض على فلول المتظاهرين العزل، وترشهم بالرصاص. من جانب، كانت الطائرات تبدو على حدود الغيم، تغوص كما لو أنها ستتحطم، وتبصق نيرانها. ومن جانب آخر، وفي الاتجاه المعاكس، كانت الفلول البشرية المذهولة الراكضة في كل اتجاه، المتجمدة المبعثرة، تتجمع وتتفرق من جديد متابعة الركض. سقط رجل ولم ينهض. واختفت مجموعة، لائذة بإفريز، في سحابة من الرماد والدخان. وتطرح امرأة نفسها أرضاً وهي تلتف حول نفسها، شاعرة بالخجل العارم إذا انحسر ثوبها، وتتردد في النهوض، ثم تنهض مطوية الجسد....." إلى آخر هذه الصور الميكروسكوبية التي نسجها ليفي لصحيفته، والتي تجعلني أشعر أنه كان يشاهد في المطار أحد أفلام الحرب على فيتنام. فهذا لم يحدث إطلاقا، ولسبب وحيد، فرأس النظام لم يكن يثق في طيرانه الحربي، ولا يمكن أن يسمح له أن يحلق فوق باب العزيزية، إذا ما كان الحدث في طرابلس مثلما أكدت قناة الجزيرة، فـ (ليفي) الكاتب الكبير والصحفي المخضرم لم يذكر اسم المدينة التي تُقصف ولا اسم القناة التي شاهدها في المطار. غير أني أحسد ذلك المصور المحترف - حسب رواية ليفي - الذي اصطاد ملامح المرأة الخجولة بدقة تحت القنابل ووسط الرماد والدخان، وأقدس تلك المرأة- حسب رواية ليفي- المنطرحة على الأرض والتي ضحت بنفسها تحت القصف العنيف حتى لا تنهض وينكشف جزء من ساقها، وكم تذكرني هذه الرومانتيكية في نقل الخبر برواية(بول وفرجيني) التي ترجمها المنفلوطي تحت اسم (الفضيلة).

ما حدث أن أحد الشباب من بيت درنة الثقافي اتصل بقناة الجزيرة ليبلغها عن كمين النظام، لكن الجزيرة استمرت في بث الشهادات والتأكيد على قصف طرابلس بالطائرات دون أن تعير الأمر اهتماما. ومن المصادفة المحضة أنه في لحظة الاتصال بالجزيرة اقتحم البيت الثقافي بعض البلطجية المسلحين، وهم يُكبِّرون، واستولوا على كل أجهزة الكومبيوتر الخاصة، وغادروا وهم يكبرون، وكدنا أن نتعرض للقتل. وتوقف النت، ليذهب فيما بعد الصديق نعمان الأطرش أحد أعضاء بيت درنة إلى الحدود الليبية المصرية، ويحضر أول كاميرا للجزيرة تدخل إلى ساحة الحراك الليبي، ويصبح مراسلا لها في درنة إلى أن هدأت الأمور ووصلت أطقمها إلى المدن الليبية المحررة.

بعد تحرير طرابلس ولقائي بأحد الأشخاص، من جماعة الأخوان، عرفت السبب الذي يكمن خلف الخبر المفبرك للقصف الجوي للمظاهرات، ولماذا الجزيرة، رغم تحذيرها، لم تتوقف عن إذاعة كلام الشهود المتشابه؟ ولماذا لم يهتم أحد فيما بعد بهذه الحادثة التي ثبت كذبها؟ وحتى(ليفي) الذي جاء إلى ليبيا متأثرا بهذه الحادثة، لم يتطرق لها في بقية كتابه.

أخبرني ذلك الشخص، وبتفاخر، أنه أحد الشهود الذين نسقوا مع الجزيرة للاتصال بها لاختلاق حادثة القصف الجوي لشوارع طرابلس، وأن جل الشهود الذين تحدثوا كانوا من خارج ليبيا، وفعلا كانت الاتصالات في تلك اللحظة مقطوعة عن طرابلس كما أخبرتني الزميلة سالمة والتي مِثلُنا جميعا ابتلعت طعم الجزيرة، وهنا الخبر لا علاقة له باللعب بالمعلومة، أو تضخيمها، أو لوي عنقها، ولكن علاقته المباشرة بصناعة الكذب.

وصل بالجزيرة التبجح في نهاية الأمر إلى أنهم قالوا أن ليبيا لم يكن فيها مسرح أبدا، وأننا نحلم بمسرح مستقبلي مثل مسرح عادل إمام

في بنغازي وإبان العمل في جريدة ميادين، كنت وصديقي أحمد الفيتوري، صاحب الجريدة، نكتفي بمشاهدة نشرة واحدة يوميا على قناة (فرانس 24)، تلك القناة المحترفة التي أزعجت بمهنيتها الكثير من الليبيين الهائجين في ذلك الوقت، والذين كانوا في حاجة لكل من ينحاز لثورتهم ولو كان على حساب الصدق والمهنية.

وفي بعض المرات النادرة التي كنا نُقلِّب فيها التلفزيون نمر على الجزيرة، فنضحك في وقت كان الضحك فيه صعباً، لأنها كانت تبث تقاريرَ وأخبارا مزيفة أو مشوهة عما يحدث في بنغازي، وباعتبار عملنا الصحفي كنا على صلة بتلك المعلومات، وقلت لصديقي الفيتوري ممازحا: النظام يكذب في كل شيء سوى في وصفه لقناة الجزيرة بالحقيرة. لكننا كأي ثوار هائجين كنا في حاجة ماسة في تلك الفترة لمن يدعمنا حتى بالحقارة كي تنجح ثورتنا، لكن ما حدث أن سلالة الجزيرة من القنوات الليبية ورثت هذا الكذب تحت شعارات الإعلام الوطني، ولم تتوقف الحقارة الإعلامية حتى بعد أن سقط النظام واستلم الليبيون وطنهم خاليا من النظام.

إبان الشهور الأولى لانتفاضة فبراير، كانت الجزيرة تواصل الاتصال بالأشخاص أنفسهم، تحت مسميات، ناشط سياسي، أو إعلامي، أو كاتب، ولأن ليبيا صغيرة كنا نعرف أولئك الأشخاص الذين لا علاقة لهم بالنشاط أساسا، ما بالك بالنشاط السياسي، ولا بالإعلام ولا بالكتابة، وكانت توجه لهم أسئلة عن الوضع الميداني، وكانوا يتحدثون بتفصيل عن جبهات تبعد عنهم أحيانا أكثر من ألف ميل، وفي الوقت نفسه كانت تُجرى ندوات مطولة في قناة الجزيرة مباشر، مع أشخاص نراهم لأول مرة يدعون أنهم أعضاء اتحاد الكتاب الليبيين أو إعلاميون مخضرمون، يتحدثون عن مستقبل الثقافة والفنون والإعلام في ليبيا، ووصل بهم التبجح في نهاية الأمر إلى أنهم قالوا أن ليبيا لم يكن فيها مسرح أبدا، وأننا نحلم بمسرح مستقبلي مثل مسرح عادل إمام. ومن الواضح أن أولئك الكتاب والإعلاميين الكبار، كما تقدمهم الجزيرة، لم يشاهدوا سوى مسرح عادل إمام. وكنا نضحك ، ليس بفعل مسرح عادل إمام، ولكن بفعل مسرح الجزيرة الكوميدي الذي تشيده في قلوب الناس البسطاء هنا، المأخوذين بها لأنها، كما يقولون، هي قناة الثورة. أولئك الناس الطيبون الذين شيعوا شهيد القناة، المصور علي جابر بطقوس تكريمية لم يسبق أن حدثت لإعلامي على مدى التاريخ والجغرافيا، وأطلقوا اسمه على الكثير من المؤسسات بما فيها كتائب عسكرية. لترد لهم الجزيرة، فيما بعد، صاعَ الاحتفاء بها صاعين من الفتن والمؤامرة.

حدثني قريب من قريتي كان يقاتل في جبهة إجدابيا عن إخراج طاقم الجزيرة لمعارك وهمية يتم تصويرها وبثها كوقائع تصادم بين النظام والثوار، في تلك الفترة كنت أشاهد مثل هذه المقاطع، وأستغرب أن الثوار يقاتلون وهم يمشون واقفين دون خوف من رصاص أو قذائف من الجهة المقابلة، وكان التفسير الشائع هو الشجاعة الاستثنائية للثوار الليبيين، التي كان يكمن وراءها، في الواقع، إخراج سيء لطاقم الجزيرة، وما حاجتهم للإخراج الدقيق وسط هذا الهيجان الذي كان في أشد الحاجة لتصديق ما يريده وليس لواقع ما يحدث.

يقول بورديو في مكان آخر من الكتاب نفسه:"منذ عدة سنوات كان علي أن أقوم بالتظاهر، تُعد اللافتات وتسير المظاهرة وتصل إلى وزارة التعليم الوطني؛ أما اليوم، يجب استدعاء– أنني أبالغ بالكاد – مستشار متخصص ومؤهل في الإعلام. يتم عمل بعض الخدع الحاذقة التي تشد اهتمام وسائل الإعلام وتصدمها: مع بعض التنكر والأقنعة الماكرة يتم الحصول بواسطة التلفزيون على تأثير ليس بعيداً عن ذلك الذي يمكن أن تحصل عليه مظاهرة تتكون من خمسين ألف فرد."

يتحدث هنا بورديو عن تلفزيونات غربية محترفة، ما بالك لو تحدثنا عن تلفزيونات عربية غبية، وتفتقد لأهم بنود العقد الأخلاقي بينها وبين الناس، وهو الخجل من المُشاهد. ولا أبالغ حين أصفها بالغباء، فبمجرد مشاهدة برنامج مثل الاتجاه المعاكس لفيصل قاسم يمكن الوثوق أن أقل مايمكن أن توصف به هو الغباء.

يقول فلوبير:"يجب رسم ما هو رديء بشكل جيد" بينما قناة الجزيرة ترسم ما هو جيد بشكل رديء. فهذا الحراك العربي العظيم، سرعان ما انعكس في قناة الجزيرة كحرب عصابات أو كعراك بلطجية في الشوارع الخلفية، وكما يقول بورديو"بدل أن يكون التلفزيون أداة رائعة للديمقراطية يتحول إلى أداة للقمع الرمزي". وأنا هنا أتحدث عن قناة الجزيرة، فقط، لأن لعبتها لم تتوقف، ولأنها تتلاعب بشكل مكشوف، وتتدخل كأي مؤسسة استخباراتية في الشؤون الداخلية لدول أخرى. ولأنها الوحيدة المسموح لكاميرتها أن تتسكع بين الجنود الإسرائيليين وهم يحتسون القهوة ويلعبون الورق أثناء حربهم على غزة.

تذكر مصادر ميدل إيست أونلاين وثيقة رقم 05DOHA1765 المسربة عبر ويكيليكس ، وتاريخها: 20 / 10 / 2005، مشيرة إلى:"تعاون وثيق بين المدير العام للجزيرة والسلطات الأميركية حيث تضمن التعاون إزالة مواد تضر بالصورة والجيش الأميركي في العراق". وتقول ميدل إيست أون لاين:"وبرحيل وضاح خنفر عن إدارة الجزيرة وتعيين مسؤول قطري يفقد التنظيم الدولي للإخوان المسلمين مركزاً مهماً ساعدهم في بسط سلطة إعلامية على الشارع العربي عبر استراتيجيات مختلفة تضمنت الترويج لأفكار الإخوان وتهييج الشارع العربي".

وفي الواقع كانت إزاحة وضاح خنفر، المدير السابق لإدارة شبكة الجزيرة، وتكليف الشيخ أحمد بن جاسم آل ثاني بديلا له، يشبه حرق الجاسوس حين يُكشف في لغة أجهزة المخابرات الدولية.