Atwasat

ترحال: متحف باردو: موعد مع الموت

محمد الجويلي الثلاثاء 24 مارس 2015, 09:58 صباحا
محمد الجويلي

السؤال الميتافيزيقي حول الموت هو أحد الأسئلة الأكثر إزعاجا للوعي الإنساني وإرهاقا له على مرّ التاريخ، ولكنّه الأكثر"ديمقراطية" ومساواة بين الناس لكونه يخامر عالمهم وجاهلهم، فقيرهم وغنيّهم، الأنثى منهم والذكر منذ أن يعي الإنسان هذه الحقيقة المرّة: أنّه وُلد ليموت، وإذا ما أنجب فهو ينجب كذلك للموت"لِدوا للموت وابنوا للخراب" هكذا خاطب الشاعر العربي أبو العتاهيّة البشرية منذ أكثر من ألف سنة. تساءلت في نفسى: من بنى لهذا الخراب الكبير في البلد الجميل؟ عندما شاهدت على شاشة التلفزيون جثث ضحايا متحف باردو وتدافع الهاربين من الموت- تدافعا اجتماعيّا أ ليس كذلك- وهم في أغلبهم من الضيوف الأجانب جاؤوا من كل حدب وصوب ضاربين موعدا مع الثقافة والتاريخ والحياة فإذا بهم يجدون أنفسهم في موعد مع الموت.

مَنْ بنى لهذا الخراب وخطّط لهذا القبح والبشاعة في تونس القصيدة"الجميلة" كما أنشدها الشابي. سؤال سياسي دون شكّ لم يترك لي هول الفاجعة الإجابة عليه للتوّ. فسرعان ما أطبقت عليّ أسئلة متعدّدة وتزاحمت في ذهني، كلّها تتمحور حول الموت وأنواعه، المعقول منه واللّامعقول. تذكرت فقرة من رواية"الطاعون" للكاتب الوجودي الفرنسي ألبار كامي(Albert Camus) كنت قد قرأتها منذ أكثر من ثلاثين سنة ولكن الصورة الوحيدة التي ما تزال عالقة في ذهني منها هي تلك التي رسمها الكاتب لطفل رضيع يفتك به الطاعون ويحتضر في لحظاته الأخيرة والأسئلة الوجوديّة التي تثيرها في القارئ وأوّلها: ما هو الذنب الذي اقترفه هذا الطفل حتّى يذبل وينطفئ إلى الأبد وهو الحديث العهد بالولادة والحياة والحبّ؟. قفز إلى ذهني هذا السؤال القديم الجديد: ما ذنب هؤلاء الذين جاء البعض منهم من كولومبيا في أمريكا الجنوبيّة قاطعين أكثر من عشرة آلاف كيلومترا ليلقوا حتفهم بسبب صراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل ويدفعوا من دمائهم ضريبة لثقافة غير ثقافتهم، ثقافة متأزّمة لم تحتفل بالموت في تاريخها كما تحتفل به هذه السنوات ولم تتفنّن في إبداعه وإخراجه كما تتفنّن فيه هذه الأيّام. المفارقة العبثيّة أنّ الأب الكولمبي جوزيه أرتيرو كاميلو(Jose Arturo Camelo) الذي اشتغل طيلة حياته مقاوما للإرهاب في بلده قبل أن يتقاعد قد نجا من الموت في متحف باردو في حين قضى كلّ من زوجته وابنه نحبهما. جاء من كولومبيا للاحتفال بتخرّج ابنه من الجامعة ولعلّه كان منتشيا بتقاعده وانتصاره على الإرهاب في كولومبيا، فإذا بإرهاب آخر أشدّ وطأة ومن قارة أخرى وثقافة أخرى يحصد عشيرة عمره وفلذة كبده.

أنْ نموت نحن ويحيا الوطن على يد أبنائنا كما قال شيخنا ذات يوم الذين لم ينزلوا علينا من المرّيخ قد يجد له بعضنا تفسيرا وليس تبريرا

أنْ نموت نحن ويحيا الوطن على يد أبنائنا كما قال شيخنا ذات يوم الذين لم ينزلوا علينا من المرّيخ قد يجد له بعضنا تفسيرا وليس تبريرا، فالبعض من أبناء جلدتنا وأهلنا زرعوا للموت بذورا في أرضنا وفلحوها على مرّ العصور واستفادوا في السنوات الأخيرة من أكثر إنجازات الإنسانيّة تقدّما: الانتخابات والديمقراطيّة والتكنولوجيا الحديثة في التواصل الاجتماعي... وها أنّنا جميعا في باردو نحصد ما زرعوا ونقطف من ثمار الموت ونطعمه لضيوفنا ويا نِعْم الضيافة، هكذا أو لا تكون. أن نتجرّع اليوم السمّ والعلقم ونجني الجراح على يد أبنائنا لأنّ رجالنا العظام الذين ركبوا على انتفاضة شبابنا واستولوا على السلطة مباشرة بعد سقوط ابن علي وهيمنوا على جميع مؤسسات البلاد قد خلطوا بين الشخص والدولة، بين الحزب التاريخي وخاطفيه، بين المؤسّسة الأمنية والمتسلّطين عنوة عليها، فإذا بهم يسقطون الشخص ومعه الدولة، الطائرة وخاطفيها وركّابها بالطبع فهذا أمر يمكن أن يُفهم ويُفسّر.

أن نحصد اليوم الأشواك والجراح لأنّ العفو التشريعي العام الذي تلا سقوط نظام ابن علي كان بمثابة سفينة نوح التي حملت من سجون تونس وما أكثرها وأفرغتها من عتاة المجرمين والقتلة وتجّار المخدّرات والمغتصبين والمرضى النفسيين الخطيرين الذين تحوّل البعض منهم بقدرة قادر إلى ورعين وأتقياء يرغبون بأيّ ثمن في التكفير عن ذنوبهم القديمة برفع راية القتل باسم الدين- والدين من كلّ ذلك براء- في البلاد وخارجها يحفزهم في ذلك بعض ساسة البلد الذين فتحوا البلاد بما في ذلك قصر قرطاج لأكبر الدعاة تحريضا على الفتنة وإراقة الدماء، فهذا أمر يمكن للعقل استيعابه. أمّا أن يموت كولمبي وياباني وإسباني وألماني وإيطالي تجشّم عناء السفر ليتحوّل إلى متحف يشهد على تاريخ البلاد وحضارتها العريقة بدءاً بقرطاج عليسة مرورا بالفترة الإسلاميّة الطويلة والجميلة والذهبية التي عمل فيها الأجداد على دفع الإسلام والإنسان إلى أرقى درجات الجمال ولم يكن يدور بخلدهم أنّ بعد مئات السنين سيدمرّ الأحفاد في رمشة عين ما بنوْه على مرّ القرون والسنين، فهذا ما لا يُمكن أن يُفهم، وما يدخل في دائرة العبث واللّامعقول وما يجعل العقل يطرق باب الجنون !

جاء هؤلاء من الغرب يبحثون عن دفء الشرق وسحره، فإذا بهم يقعون في محرقة. الاعتداء مزدوج: على الإنسان في الحاضر جسدا وروحا وعلى الإنسان تاريخا وصيرورة حضارات وتعاقب أجيال وثقافات، وهذا ما يرمز إليه متحف باردو، وكل متحف في الحقيقة. بالثقافة والفنّ يقاوم الإنسان الموت ويدجّن العدم وليس ثمّة أفضل من المتحف ليمكّنك ثقافيا من إخضاع الموت لمشيئتك وتركيع الفناء لإرادتك لأنّه بكلّ بساطة يتيح لك بالمحسوس والملموس وبما يوفّره لك من التراث المادي، بالعين المجرّدة أن تشاهد ما يصلك ببني جنسك وآثارهم وإنجازاتهم وهم الذين لقوا حتفهم منذ آلاف السنين وأن تعيش لبعض الوقت معهم ويعيشوا معك في تعال على الزمان ماضيا وحاضرا ومستقبلا. البشرية كما يقول أوغيست كونت(Auguste Comte) مرتبطة بعالم الأموات أكثر ممّا هي مرتبطة بعالم الأحياء، في المتحف تنتفي المتضادات ولا معنى لثنائية الحياة والموت. المتحف هو الحياة كلّها وقد استطاعت أن تتخلّص على الأقلّ في مكان واحد فريد من نوعه من غريمها وعدوّها اللدود الموت، فما أقسى حينئذ وأنت تعيش هذه اللحظات في المتحف منتشيا بإنسانيتك وبعظمة بني جنسك وبخلود هذا الجنس أن يداهمك الموت المحدق.

الموت هو موت الآخرين كما يقول هايدغار(Heidegger) ولا أحد من الموتى روى للأحياء قصّة موته

الموت هو موت الآخرين كما يقول هايدغار(Heidegger) ولا أحد من الموتى روى للأحياء قصّة موته، ما نرويه دائما هو قصص موت الآخرين وليس موتنا، وهذا ينطبق على موتى متحف باردو الذين رحلوا إلينا احتفالا بالحياة، فإذا بالموت يحتفل بهم. التفسير القدري الجبريّ بسيط "ما أخطأك ما كان ليصيبك وما أصابك ما كان ليخطئك" وهذا يذكّرنا بمثل الرجل الهارب من الموت لعبد الله بن المقفع في كليلة ودمنة يتحدّث فيه عن رجل كان يسير في مفازة كثيرة السباع وكان عارفا بمجاهلها، فإذا بذئب يهجم عليه ولكنّه يتمكّن بشق الأنفس أن يفرّ بجلده ويتقي شرّه بالارتماء في نهر كاد يغرق فيه لو لم ينجده أهل القرية، فنجا من الذئب والغرق. اطمأنّ ليلتجئ إلى بيت فارغ لاذ به معتقدا أنّه بيت الأمان والنجاة النهائية وقد ابتعد عن الطبيعة المتوحشة ولم يكن قد خطر بباله أنّه سيجد في هذا البيت لصوصا قد قطعوا الطريق على رجل من التجار وهم يقتسمون ماله ويريدون قتله، فخاف على نفسه ومضى نحو القرية، فأسند ظهره إلى حائط من حيطانها ليستريح ممّا حلّ به من الهول والإعياء وقد خال أنّه نجا نجاة نهائية، فسقط عليه الحائط ومات. وهذا مَثل الرجل الهارب من الموت الذي لا مفرّ منه.

قد يُطمئن هذا التفسير الحِكًمي للموت المواطن الكولمبي المسكين الذي قضّى حياته مقاوما للإرهاب في بلاده معتقدا أنّه نجا منه إلى الأبد بعد تقاعده وقد لاذ بحائط متحف باردو مستريحا من الهول والإعياء، فإذا به يقع في براثنه- حتّى وإنْ كان الإرهابان من طينتين مختلفتين- ويفتكّ بأغلى ما عنده ويعاقبه أشدّ العقاب بأن يتركه حيّا يُرزق يتعذّب وحده على فراق أحبّته. وعلى الأرجح أنّه لا يطمئنه ولا يطمئننا، فقد نسلّم بهذا التفسير حتّى وإنْ كان قاسيا، مكرهين لا أبطال لا حول ولا قوة لنا بأن يموت الواحد منّا وقد سقط عليه جدار في مدننا المتهالكة التي أعيتها الأيّام أو مريضا في صباه أو في شبابه أو في مقتبل العمر مهما كانت نوعية المرض، لا سيما إذا كان مستعصيا على المعالجة- عافانا وعافاكم اللّه منه- وفي حادث مرور وما أكثرها في بلداننا وما أكثر المتضرّرين منها بقدر تضررنا من حروبنا الأهلية وغير الأهليّة الأخيرة ولا ننسبها إلى فساد طرقاتنا وإلى جنون سرعة البعض منّا، بل إلى قدر الموت المتربّص بنا، بل قد يطلبها الواحد منّا فرحا مسرورا وقد بلغ من العمر عتيّا ومن العجز ما لا يُطاق"على قدر الصحّة، على قدر العمر" ولكن أن يموت أناس بمشيئة بشر مثلهم وليس بمشيئة خالقهم، فهذا ما لا يُمكن للتفسير القدريّ أن يُقنع به.

من بنى للخراب وللموت عشّا في تونس الجميلة؟ المساءلة ضروريّة وهي اللبنة الأولى للوحدة الوطنيّة والمقاومة الفعليّة للإرهاب. المسؤولية تكاد تكون جماعيّة. بدأ البناء لخراب اليوم منذ عقود طويلة، منذ أن اختطف الوطن لصالح الفرد والعائلة والعشيرة، كل جيل سياسي يضع حجره في بناء الخراب ويمرّ، جيل ما بعد الثورة الأخيرة كانت له حصّته الكبيرة من الأحجار التي بها استوى الخراب معلما في باردو وفي سُرّة تونس الحاضرة لأوّل مرّة في التاريخ. صحيح أنّ في الجيل الأخير من كان له النصيب الأوفر من غيره من دعاة الفتنة والخلط بين المقدّس والمدنّس وبين طهارة الدين ووسخ الدنيا ولكن لاينبغي أن ننسى مسؤولية من امتطى حقوق الإنسان مطيّة للتشريع لحريّة الإجرام ومن لم يفطن إلى أنّه وهو يُعمل معوله لهدم الصنم كان يخبط خبطة عشواء ويهدم في ذات الوقت أركان الدولة. المسؤولية على المستوى السياسي تكاد تكون جماعيّة. النقد الذاتي ضروري والعيب ليس في أن يخطئ المرء أو الجماعة حتّى ولو كان الخطأ جسيما ومكلّفا وإنّما ما لا يُغتفر هو البقاء في الخطإ وتبريره والتنصّل منه. الموعد مع الموت يمكن أن يتحوّل إلى موعد مع الحياة، بشرط أن تتوفّر في الأمم، وخاصة في نخبها الحاكمة والمفكّرة، إرادة الحياة. وإرادة الحياة لا تتوفّر إلّا في النخب التي تسخّر جهدها لخدمة أوطانها وليس لخدمة أنفسها.