Atwasat

ترحال:الكتابة حِرفةُ شؤم؟!

محمد الجويلي الثلاثاء 03 مارس 2015, 09:48 صباحا
محمد الجويلي

لا شكّ أنّ عنوان هذا المقال سيصدم الكثيرين،كتّابا وقرّاءً، مثلما مازالت رسالة الجاحظ في"ذمّ أخلاق الكتّاب" تثير الصدمة منذ ألف سنة من عنوانه. ولكن لا بدّ من التفريق في فعل الكتابة بين الكتابة بمعنى النسخ، كأن يتولّى الكاتب نسخ نصّ ليس بمنتجه، والكتابة الإنشائيّة الإبداعيّة التي قد لا تَسْلَمُ هي بدورها من الشؤم على صاحبها، كالشمعة تنيرعلى الآخرين وتحرق صاحبها!

النوع الأوّل من الكتابة كان موضوع وظيفة قائمة الذات لدى العديد من الشعوب التي عرفت التدوين، بمن في ذلك العرب الذين ازدهرت هذه الحرفة لديهم في دواوين الخلفاء والولاة والسلاطين على امتداد تاريخ دولهم منذ العصر العبّاسي والتي أَطلق عليها في القرن الرابع الهجري الأديب والفيلسوف أبو حيان التوحيدي الذي امتهنها في فترة من فترات حياته بـ"حرفة الشؤم"، ما يبرّر ربّما بعض ما ذكره الجاحظ فيها والتي ناله منها، وهو الذي حُبست أجرته عليها كما يشهد بذلك في هذا القول"الحرمان المرّ والصدّ القبيح والجفاء الفاحش والقدع المؤلم والمعاملة السيّئة والتغافل عن الثواب على الخدمة وحبسِ الأجرةِ على النسخ والوراقة"(التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، بيروت- صيدا، المكتبة العصرية، د.ت،ص.3)

ولمحترفي هذه المهنة من الكتاب أزياؤهم وهيئتهم الخاصة بهم في العصر العبّاسي تميّزهم عن غيرهم تماما مثل الشرطة والحجّاب والجند

ولمحترفي هذه المهنة من الكتاب أزياؤهم وهيئتهم الخاصة بهم في العصر العبّاسي تميّزهم عن غيرهم تماما مثل الشرطة والحجّاب والجند، فيرتدي الواحد منهم الجبّة العريضة التي تتدلّى إلى أسفل قدميه يجرّها وراءه ويعقص شعره على صدغه ويضع الشابورتين، وهي خوذة من أصل فارسي، على وجهه، كما يشهد بذلك الجاحظ الذي نقد في حدّة تكبّر هذا الجنس من الكتّاب وصلفهم في رسالته"ذمّ أخلاق الكتّاب" قائلا "ثمّ هو[أي الكاتب] مع ذلك في الذروة القصوى من الصّلف والسّنام الأعلى من البذخ والبحر الطّامي من التيه والسرف. يتوهّم الواحد منهم إذا عرّض جُبَّته وطوّل ذيْله وعَقص على خدّه صُدغه وتحذّف الشابورتين على وجهه أنّه المتبوع ليس التابع والمليك فوق المالك(رسالة ذمّ أخلاق الكتاب في رسائل الجاحظ الأدبية، بيروت،دار ومكتبة الهلال، ص607).

لم يتعرّض النوع الأوّل من الكتابة، بل قل الكتّاب، في تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة وربّما في تاريخ هذه الحرفة التي عرفتها سائر الحضارات التدوينيّة للتجريح والنقد كما تعرّضوا له من قِبل أبي عتمان الجاحظ في القرن الثالث للهجرة في رسالته التي ذكرناها. وقد يعود هذا النقد اللّاذع لهم لا لعيب في الكتابة ذاتها التي أكسبتهم هذه المثالب وإنّما لأنّ هؤلاء الكتّاب في عصره كانوا في أغلبهم كما لاحظ علي أبو ملحم، محقّق هذه الرسالة، من أصل فارسي عُرفوا بشعوبيتهم وهي نزعة عنصريّة معادية للعنصر العربي تفشّت في عصره مثل يونس أبي فروة وأزدان أقذار وإبراهيم بن إسماعيل وغيرهم.

لا يفسّر الجاحظ الدور الذي لعبته الكتابة في انحرافهم ولكنّه يعطي الانطباع أنّها السبب في ذلك فلا يترك مذمّة إلّا وألصقها بهذه الحرفة فيجرّدها من كلّ قيمة إيجابيّة فيقول"ولو كانت الكتابة شريفة والخطّ فضيلة كان أحقّ الخلق بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولكنّ اللّه منع نبيّه ذلك وجعل الخطّ فيه دنيّة وصدّ العلم به عن النبوّة .......وكتب أحمد بن يوسف يوما بين يدي المأمون خطّا أعجبه فقال: وددت واللّه أنّي كتبت مثله فقال له أحمد: لا تأْسَ عليه يا أمير المؤمنين، فإنّه لو كان حظّا ما حُرِمَه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم" (ذمّ أخلاق الكتّاب، ص.606-607).

فالكتابة بمعنى النسخ والخطّ في تأويل الجاحظ فعل مجرّد من أيّ قدسيّة، بل وقع صدّ العلم به عن النبوّة

فالكتابة بمعنى النسخ والخطّ في تأويل الجاحظ فعل مجرّد من أيّ قدسيّة، بل وقع صدّ العلم به عن النبوّة، على حدّ تعبيره، لكون النبيّ عليه السلام كان يجهل الكتابة. والمفارقة تكمن في أنّه حين يذهب الاعتقاد السائد إلى حدّ يومنا هذا في فنون الخطّ ورسم الحروف أنّ الخطّ الجميل الذي تفنّن العرب فيه، كما تشهد بذلك المخطوطات التي تركوها وحُفظت في المتاحف، محمود في ذاته بقطع النظر عن محتوى ما يخطّه، يصبح لدى الجاحظ فعلا يشين لصاحبه وهويقلب بذلك الأمور رأسا على عقب، بحيث تصبح رداءة الخطّ ممّا يتفاخر به أشراف القوم بمن في ذلك المأمون ذاته خليفة المسلمين وصاحب بيت الحكمة الذي يدعوه كاتبه إلى ألّا يتأسّى لعدم قدرته الكتابة بخطّ جميل. يحاول الجاحظ في هذه الرسالة جاهدا أن يجعل من سوء أخلاق الكتّاب على حدّ اعتقاده نتيجة حتميّة لطبيعة مهنتهم، فطبيعة عملهم التي تجعل الواحد منهم عبدا وخادما مأمورا في موضع المفعول به دائما وليس في موضع الفاعل قًطّ يكتب ما يؤمر بكتابته دون زيادة أو نقصان علاوة على أنّها تصيّرهم كالآلة فتنزع عنهم، إذا استلهمنا مصطلحات فلسفة العمل الحديثة، إنسانيتهم وتمحو شخصيتهم، يكتبون في اغتراب كامل عن أنفسهم، فهي تورّثهم الغباء والغفلة. يقول الجاحظ "ومع ذلك إنّ سِنخ الكتابة بُني على أنّه لا يتقلّدها إلّا تابع ولا يتولّاها إلّا من هو في معنى الخادم ولم نر عظيما قطّ تولّى كفاية نفسه أو شارك كاتبه في عمله وكلّ كاتب فمحكوم عليه بالوفاء ومطلوب منه الصّبر.... فأحكامه أحكام الأرقّاء ومحلّه من الخدمة محلّ الأغبياء"(ذمّ أخلاق الكتّاب، ص.607).

ثمّ يضيف الجاحظ قائلا في الحطّ من منزلة الكتابة والكتّاب الذين هم أقرب إلى الخليفة والوزراء موقعا وأبعدهم عنهم مكانة وشرفا يكتفون بتحبير ما يُملى عليهم حرفيّا دون أن يكون لهم فيما يكتبونه إضافة نوعيّة، ماعدا التنسيق الشكليّ لأقوال غيرهم "وحسْبك بقوم أنبلهم أخسّهم في الرّزق مرتبة وأعظمهم غَناء أقلّهم عند السلطان عقلا... فإذا أبرم الوزراء التدبير ووقفوا منها على التقدير، طُرحت عليه رقعة بمعاني الأمر لينسّق فيها القول، فإذا فرغ من نظامه واستوى له كلامُه... صار مثله مثل العوام"( ص.615).

فأن يكون معظم الكتّاب شعوبيين، فهذا لا يبرّر للجاحظ الهجوم على مهنتهم، فماذا سيكون موقفه إذا تعلّق الأمر بكتّاب عرب معادين للشعوبيّة، فالأولى في هذه الحالة دحر أفكارهم الشعوبيّة العنصريّة وبيان اختلالها عوض الهجوم على الكتابة ذاتها التي هي قائمة الذات بهم ودونهم ولا ناقة لها ولا جمل في عنصريتهم وشعوبيتهم.

فالورّاقون والناسخون، على عكس ما يوهمنا الجاحظ، قد ساهموا مساهمة فعّالة في تجويد الخطّ العربي حتّى يصبح مقروءأً على أحسن وجه وبسرعة وتحسين الكتابة بلغة الضاد، كتابة عرفت باسمهم"كتابة الناسخين" التي كان من ثمراتها ازدهار فنون صناعة الكتاب في العالم العربي الإسلامي، هذا علاوة على دورهم الفعّال في انتقال الخطّ من الورق إلى المعمار والأواني والقماش بزخرفتها ضمن جماليات عرفت بها وبقي البعض منها إلى الآن شاهدا على مكانة الخطّ والخطّاطين في ازدهار الفنون الإسلاميّة.

ومن البديهي أنّه إذا نحونا نفس المنحى اليوم واستلهمنا منطق الجاحظ الحِجاجي، لكن في اتجاه عكسيّ لاتّجاهه في ذلك العصر دفاعا عن النسخ والخطّ الجميل اللذين لا نرى الجاحظيين اليوم

ومن البديهي أنّه إذا نحونا نفس المنحى اليوم واستلهمنا منطق الجاحظ الحِجاجي، لكن في اتجاه عكسيّ لاتّجاهه في ذلك العصر دفاعا عن النسخ والخطّ الجميل اللذين لا نرى الجاحظيين اليوم، بل الجاحظ نفسه وهو يعيش بيننا إلاّ في موقع الدفاع عنهما دفاعا مستميتا لوجّهنا سهام نقدنا لنوع من الكتابة الالكترونيّة التي تعبث بالبيان العربي الذي أفنى الجاحظ عمره في الدفاع عنه وهو ما يتجلّى في كتابات شريحة هامة من الشباب العربي بمن في ذلك المتعلّمون منهم والحاصلون على شهادات جامعيّة ممّن يكتبون في الانترنت والفيسبوك وعند إرسالهم للإرساليات القصيرة على الهواتف الجوّالة في لغة عربيّة مفكّكة ومستهجنة يُصرّف فيها الفعل العربي بقواعد الصرف في اللّغات الأجنبيّة مثل الفرنسيّة والإنجليزيّة وفي لهجات محلّية كما هو الشأن كذلك في ما يُسمّى بـ( الأرابيزيArabizi)، وهي كتابة بالعربيّة تعتمد الحروف اللّاتينيّة- وهو عين المفارقة- وباعتماد الأرقام إذا ما تعذّر وجود الحرف العربي في الألفبائيّة اللّاتينيّة مثل رقم 3 لحرف العين و7 لحرف الحاء وهي ظاهرة من جملة ظواهر أخرى جعلت بعضهم ينظّمون في دبي بين 8 و 10 مايو 2013 ندوة بعنوان "العربيّة في خطر" داقين ناقوسه ومجمعين في خلاصة الندوة أنّ هذه اللّغة مهدّدة بالانقراض إذا ما تواصل الأمر على هذا النحو دون اللّجوء إلى وسائل دفاعيّة مجدية. وفي الحقيقة فإنّ العربيّة أصبحت في خطر منذ مدّة وحتّى قبل الكتابة الالكترونيّة التي لا شكّ أنّها زادت الطين بلّة، على الأقلّ فيما يتعلّق بكتابة الشريحة الغالبة من الشباب العربي الذين يسكنهم هاجس تبليغ المعنى على حساب اللّغة بما في ذلك لغتهم.

فصناعة الكتابة كما يسميّها الجاحظ تشهد أزمة حقيقيّة في العالم العربي نتيجة أزمة المطالعة وفي مجتمع من أكثر المجتمعات عزوفا عن الكتاب رغم أنّة ينتمي إلى حضارة كتاب بأتمّ معنى الكلمة، فمن يحذقون صناعة الكتابة اليوم في العالم العربي في تناقص من يوم إلى آخر ودروس الجاحظ في هذا المجال هي من الدروس الخالدة، ليس للكتابة العربيّة فقط، وإنْ كانت هي غايته وإنّما كذلك لفعل الكتابة الإنساني في مظهره الإنشائي الذي يحقّق ما سمّاه رولان بارت"متعة النصّ".