Atwasat

أوهام الدجاج

عمر أبو القاسم الككلي السبت 28 فبراير 2015, 06:30 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

منذ زمن بعيد روى صديق طرفة في جلسة سمر. تقول الطرفة أن صبيا صار يعتقد أنه حبة شعير وليس كائنا بشريا، فأصبح يفر مرتعبا كلما واجهه دجاج. ذهب به أهله إلى طبيب نفساني، وبعد عدة جلسات تمكن الطبيب المعالج من إقناع الصبي أنه إنسان طبيعي وليس حبة شعير، فعادت تصرفاته طبيعية ولم يعد يخشى الدجاج.

لقد تناقشنا من قبل في هذه المسألة واقتنعت أنك إنسان عادي ولست حبة شعير بحيث تخشى على نفسك من الدجاج

لكن ما لبثت حالة الارتعاب من الدجاج والفرار منه أن عاودته من جديد. أخذه أهله مرة أخرى إلى الطبيب النفساني فعنفه على تفكيره هذا ووهمه وقال له لقد تناقشنا من قبل في هذه المسألة واقتنعت أنك إنسان عادي ولست حبة شعير بحيث تخشى على نفسك من الدجاج. فرد الصبي: هذا صحيح يا دكتور. لقد أحضرني أهلي إليك من قبل لأنني كنت أتوهم أنني حبة شعير وأخشى على نفسي من الدجاج. وأنت أثبت لي، مشكورا، أن هذا مجرد وهم لا أساس له من الصحة وأنني إنسان عادي تماما كأي إنسان. لقد اقتنعت بكلامك، وما زلت مقتنعا به حتى الآن. فأنا إنسان عادي ولست حبة شعير، بدليل أنني أكلمك الآن. حبة الشعير لا يمكنها الكلام. المشكلة ليست متعلقة بي أنا، يا دكتور.
- أين المشكلة إذن؟!
قال الطبيب مستغربا.
- المشكلة يا دكتور: من يقنع الدجاج أنني إنسان عادي ولست حبة شعير!

لست أدري لماذا أخذت هذه الطرفة تعاودني كثيرا في حوالي الثلاث سنوات الأخيرة!
لكن هذا موضوع آخر.

المهم أن كثرة معاودة هذه الطرفة لي جعلتني أتأمل محتوياتها وأستكنه دلالاتها، فتبين لي أنها حُبلى بالدلالات (أو أن تفاعلي معها أحبلها بالدلالات!).

عناصر التحليل (أو عناصر الدلالة) في هذه الطرفة هي: الصبي، حبة الشعير، الدجاج. أما الأهل والطبيب فهم(في مستوى تحليلنا الحالي) مجرد مكملات للإيهام بواقعية الطرفة من حيث كونها حكاية.

فكون بطل الطرفة صبيا يعني أنه في بداية حياته وأن المستقبل، نظريا، منفتح أمامه وأنه يسير نحوه، وما تماهيه مع حبة الشعير سوى اعتقاد باطن منه أنه بذرة حافلة بالخصوبة ستنفتح ويُشَطِّىءُ طلعُها ويثمر(باعتبار البذور رمزا للخصوبة والتفتح). كما أن تمثل مصدر الخطر على هذه البذرة هنا في الدجاج، وليس في أي طائر آخر(كالحمام والعصافير، مثلا) لا يخلو، بدوره، من دلالة. فالحمام والعصافير تستخدم رمزا للسلام والجمال والحرية، في حين أن الدجاج ليس له تاريخ رمزي.

أية امرأة تسر حين يخاطبها محبها بـ"يا حمامتي أو يا عصفورتي" لكنها من شبه المؤكد أنها ستسقطه من حياتها لو قال لها:"يا دجاجتي"

فأية امرأة تسر حين يخاطبها محبها بـ"يا حمامتي أو يا عصفورتي" لكنها من شبه المؤكد أنها ستسقطه من حياتها لو قال لها:"يا دجاجتي"، إلا إذا كانت هذه الجملة تمثل نكتة خاصة بينهما. لذا اختارته هذه الطرفة ليكون رمزا للخطر والموت. أي جعلته رمزا معاديا للمستقبل الذي يمثله الصبي-حبة الشعير ومعاديا للحياة. كما أن الدجاج أكثر التصاقا بالإنسان، لأنه طائر مهجن، أو مدجن.

ورغم فائدته للإنسان إلا أنه يشكل بعض الإزعاج من حيث أنه يختلط بالإنسان ويدخل البيوت ويمكن أن يحدث بعض الأضرار(يمكن له، مثلا، أن يثقب أكياس الحبوب في البيوت ويتناول منها) على خلاف العصافير والحمام التي تخشى الاقتراب من الإنسان عادة.

ومن خلال عملية اختلاط الدجاج بالإنسان هذه فإن صبينا يخشى من أن الدجاج ينظر إليه على أساس أنه حبة شعير حبلى بمستقبل خصب ويريد تدمير هذا المستقبل، ومن المستحيل إقناع الدجاج بأن هذا الصبي ليس حبة شعير. فالدجاج لا يذهب إلى الأطباء النفسانيين حتى يزيلوا عنه هذا الوهم، والأطباء البيطريون لا علاقة لهم بأوهام الدجاج!