Atwasat

الشكر الحقيقي

محمد عقيلة العمامي الأربعاء 25 فبراير 2015, 10:03 صباحا
محمد عقيلة العمامي

أنهى الدكتور كامل اللبناني محاضرته عن حضارة الفينيقيين فتقدم رئيس نادى الفكر العربي الحديث وشكره مبديا إعجابه الشديد بأفكاره(لِمْرتبه كتير!)، ثم استطرد(والله-خيِ- ما بنعرف كيف نشكرك؟!)" وقف الدكتور كامل وقال معقبا:"(العفو! بس هونيكا أصه زغيري، نسيت خبركن ياها.. أجدادنا الفينيقيين هني أول من ابتكر المصاري من قبل ما العالم يعرف الدولار!!)".

خطرت علىّ هذه القصة بعدما شكرني مقدم برنامج مباشر من إحدى القنوات الفضائية، وهو يقودني نحو باب المصعد، متصنعا ابتسامة مودة. المضحك أن هذا الإعلامي كان يحدثني قبل حوارنا عن إعلاناتهم عن البقر الضاحك، وكم يتقاضون عنها؟!

كل ما تفعله معظم القنوات الفضائية العربية، عند توديع الضيوف هو شكرها وامتنانها وإعجابها الشديد بحديثه الشائق وأفكاره، ثم يعودون به إلى بيته بسيارة القناة المكيفة، فيما يكون مسترخيا في المقعد الخلفي، مزهوا وهو يسترجع إجاباته(لِمْرتبه كتير)، غافلا عن كونه مفلسا، وبالطبع عاجزا عن إقناع أطفاله أن الفول بالزيت والكمون أكثر فائدة من هبر البتلو!

من منا لا يعرف أنه ليس هناك قناة فضائية واحدة ليس وراءها من يمولوها

من منا لا يعرف أنه ليس هناك قناة فضائية واحدة ليس وراءها من يمولوها: إما مستفيدا من عائدات إعلاناتها التجارية، أو من مكاسبها الإعلامية، وبالتالي السياسية ؟ ومن لا يعرف أنه ليس هناك عنصر واحد من كوادرها يعمل(لوجه الله والوطن!)؟ أما الضيف العزيز الذي يفترض أن يذاكر ساعات قبل موعد الحوار، ويتأنق ويحرص على عدم تكرار ظهوره بالقيافة نفسها ويفني نهاره بين الذهاب إلى الاستوديو والعودة منه فأجره عند الله! ومع ذلك أستغرب كثيرا في تهافت"الضيوف" على ظهورهم المتصل في مختلف القنوات! صحيح أن كثيرين منهم مُؤمن بقضية ما، ولكن الكثير منهم على باب الله! وصحيح أن الكثيرين منهم حاجته ملحة ويومية للإطراء وشحن الذات اليومي بأهميته وعبقريته في التحليل ومعرفة خبايا الأمور الغائبة عن المواطن البسيط، وصحيح أن الكثيرين يحلمون أن يتذكرهم أصحاب القرار وقد يكلفونهم بمهام.. وصحيح أن كثيرين يسترزقون من إمكانياتهم وعلمهم، وفي تقديري أن هذا حقهم... تماما مثل حق الطبيب، والحمال!

قابلت ذات مرة أستاذا كبيرا، ومحللا سياسيا حقيقيا في استوديو قناة ما، كنت، وما زلت معجبا بقدرته الفائقة على التحليل ومبهورا بثقافته.. أبديت له إعجابي، فشكرني وقبل أن ينهي فنجان قهوته أخبره مُعد البرنامج أنهم جاهزون، فليتفضل على الهواء! فسأله من دون مواربة أو خجل:"أين المكافأة؟ أنتم تعرفون أني لا أدخل أي أستوديو إلاّ والمكافأة في جيبي!" وبالفعل لم يدخل إلاّ بعد أن استلم المظروف وفتحه وعدّ النقود!

ليس هناك من خجل أو عجب، فالعالم كله يتعامل بهذه الحيثيات. في عهد المملكة الليبية، كان عدد من أساتذة الجامعة الليبية يكتبون بانتظام في الصحف الليبية، وأذكر أن لصديقي الأستاذ محمد على الشويهدي دراجة نارية(فيسبا) عندما كان محررا صحفيا بصحيفة الحقيقة، وكان مطعم(بوعشرين) بمنعطف سوق الحاره، بنهاية ميدان البلدية على"ايدك ليمين" يقدم طبقا جديدا على المطبخ الليبي وهو" أرز بكبد وكلاوي الخروف" وكان لذيذا للغاية، وكنا مبهورين بطريقة تقديمة إذ يقدم طبق الأرز المبهر كقبة تعلوها قطع الكبد. سألني الشويهدي أن أرافقته إلى مقهى(العرودي) لاستلام مقالة من الدكتور المرحوم عبد الرحمن بدوي، ولما كان المقهي عند ناصية شارع مطعم بوعشرين أغراني بطبق أرزعلى حسابه- كانت ثمنه حينها خمسة قروش! وصلنا المقهى. صافحنا الدكتور بدوي، الذي سأل الشويهدي:"أيه الأخبار.. معك المكافأة ؟" أجابه:"نعم.. بالتأكيد" وأخرج من جيبه مظروفا وسلمه له.

فتح الدكتور المظروف وشاهد ما فيه، ولم يعدّ المبلغ وضعه في جيبه. بعدها أخرج من جيبة الداخلي مظروفا أبيضَ. لم يفتحه الشويهدي ووضعه في جيبة. صافحناه وانحرفنا نحو مطعم بوعشرين. قال الشويهدي:"لا أذكر أنه سلمني مقالَهُ من دون استلامه لمكافأة المقال السابق!".

إنه نظام حضاري لا غبار عليه، وهو بالتأكيد حق المؤلف مثلما هو حق ضيف أي برنامج تلفزيوني.. لا ينطلق إلى القناة من أجل الله والوطن فقط.. وإلاّ أنا غلطان؟