Atwasat

خوازيق ليبيا

سالم العوكلي الثلاثاء 24 فبراير 2015, 10:24 صباحا
سالم العوكلي

كتبت مرة على الفيس بوك: في صغري قام مجموعة من الولاد الأشقياء بتدمير وكر نمل تدميرا كاملا، وحين عدت من باب الفضول بعد يومين لتفقد هذا الوكر، وجدت النمل قد أصلحه وعاد يعمل في طوابير وكأن شيئا لم يحدث، ومن هذا المنطلق فإني متفائل بليبيا.

علق أحد الأصدقاء: ولكن يا أستاذ سالم النمل ليس لديه أخوان مسلمون!!!.

كان المكان ليبيا، أرضا شاسعة تلتهم جزءا كبيرا من شمال إفريقيا، وتطل على حضارة البحر المتوسط بساحل طوله 2000 كم، انبثقت فيها مع بداية الستينيات ثروة نفطية هائلة، جعلتها محل صراعات داخلية وخارجية، حتى اختطفها بثروتها عسكري جاء من هامش تاريخها وجغرافيتها، ثروة هائلة جعلت نظاما قمعيا ومجنونا يستمر لأكثر من أربعة عقود.

وكان الزمان أواسط التسعينيات، وليبيا تتقاذفها صراعات داخلية وخارجية، علاقة الناس بها كونهم ضحايا هادئين غير منظورين، لعزلتهم وصمت العالم، وكانت أدبيات الإصلاح قد بدأت تتواتر في أرض مالحة وغير خصبة لأية بذور إصلاحية.

مع بداية الألفية الثالثة ظهرت مشاهد تلفزية معبرة شكلت مخيلة جديدة للعالم وللشرق الأوسط، خصوصاً مشهد احتراق برجي التجارة وانهيارهما، مشهد سقوط تمثال صدام حسين، ومشهد القبض عليه في حفرة وطبيب أسنان أميركي يكشف بمصباح يدوي عن أسنانه، وكأن هذا المشهد يقول هل لهذا الأسد الهرم الذي طالما زأر في المنطقة أنياب؟ أم أن الزئير وحده كان كافيا لنشر كل هذا الخوف؟. كانت هذه المشاهد جزءاً من فيلم ملحمي بدأ بانهيار سور برلين.

خيال التاريخ تجاوز خيال الطغاة، وكان العالم بعد هذه المشاهد قد تغير فعلا، خصوصا مع مشهد إعدام أقوى وأشرس طاغية في المنطقة، ارتعشت كراسي الطغاة الآخرين ودب الرعب في حصونهم التي شيدوها على مدى عقود، فظهرت ألعاب جديدة لمحاولة ترويض مخيلة التاريخ التي غدت مرعبة، ولاتقاء شر الوحش الأميركي الهائج الذي بدأ يتسكع في المنطقة.
بدأت أدبيات الإصلاح السياسي والاقتصادي تظهر في المنطقة برمتها، وفي ليبيا التي كان اسمها محرما حسب تعليمات مؤسسة الرقابة على المطبوعات.

وكان السيناريو الجديد المعتمد في المنطقة هو التوريث، وأبناء الطغاة متأهبون للعب دور البطولة في هذا السيناريو، ومازالت الشعوب المقهورة تلعب دور الكومبارس بامتياز. احتاج التوريث إلى قوى سياسية جديدة ومناضلة ومتسربة إلى وجدان الناس، فذهب الخيال الأميركي إلى إمكانية وصول الإسلام المعتدل إلى السلطة كملحق بسياسة التوريث، وكانت جماعة الأخوان التي ناضلت لعقود هي الخيار الأميركي الأمثل.

شكل الأخوان كتلة مهمة في انتخابات البرلمان المصري عام 2005، في الفترة نفسها التي بدأ نجم راشد الغنوشي في تونس يلمع من جديد، وطبّع الأخوان في ليبيا العلاقات مع النظام السابق عام 2004 ليدخلوا بقوة مشروع الإصلاح الذي يقوده ابن القذافي المفضل آنذاك لدى الليبيين. باعتباره أفضل الشرور المتوقعة.

كانت شعبية سيف الإسلام، الذي بدأ يتحدث عن الديمقراطية والأحزاب والمجتمع المدني، ويشن حربه على رموز اللجان الثورية والقطط السمان، تزداد باطراد، خصوصا بين فئة الشباب الذي أعلن أنهم ذخيرة مشروعه، فشكل منهم منظمات تعد بمئات الألوف في المدن المختلفة. ومعلنا في الوقت نفسه ثوابت المرحلة أو خطوطها الحمراء الثلاث: والده، ووحدة ليبيا، والإسلام.

اخترع مشروع ليبيا الغد، وليبيا التي سيرثها تحتاج إلى وجوه جديدة لها سمعتها ومنبثقة من وجدان الناس، حيث كان مشروع تنظيف البلاد من الملفات العالقة قد بدأ على أشده، من أجل أن يستلم الأبناء ليبيا جديدة مفروشة ومتناغمة مع ضغوط العالم الجديد.

كان التوجه في تلك الفترة لإقحام كفاءات ليبية ووطنية لها صداها في الشارع في مناصب الدولة جزءاً من استراتيجية نظام يحاول أن يكون جزءا من المزاج العالمي الجديد، وكانت نية القيادة السياسية هي تصفية الملفات العالقة وتخفيف الاحتقان، وإنقاذ بعض المؤسسات المتهالكة، والتجاوب مع تقارير المنظمات العالمية بخصوص ليبيا، من أجل خلق بيئة مختلفة لتوريث الجيل الثاني من العائلة القذافية. الكثير من الليبيين مترددون رغم التصريحات المعسولة، وغير واثقين أصلا في هذه السلالة، لكن الأفق لأي تغيير كان مسدودا أمامهم، ما جعلهم في النهاية راضين بأي تغيير خصوصا مع يقينهم بأن ليس ثمة ما هو أسوأ مما عاشوه خلال هذه العقود.

أما زعيم الإصلاح سيف الإسلام الذي فاجأه الربيع العربي، فقد حاول أن يناور داخل هذه الظاهرة العربية الجديدة، فكان التجهيز ليوم 17 فبراير2011- الذي أُعلن عنه في الفيس بوك كموعد للانتفاضة الليبية- من خلال قيادة سيف الإسلام لمظاهرة شبابية تسقط حكومة البغدادي وتشكل حكومة جديدة نصفها من الأخوان، لكن بداية الحراك في بنغازي يوم 15 فبراير أربك كل هذه التجهيزات.

كانت برامج الإصلاح محاور جل الحوارات السياسية، فرضت على المنطقة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والنهاية التراجيدية لأشرس دكتاتور في المنطقة سقط بحبله في حفرة ليبتلعه عالم النسيان، فكانت هذه الكوى التي فتحت وراء خروج مظاهرات في تونس أدت في النهاية إلى هرب بن علي، ووراء سقوط مبارك الذي فتح هوامش للتعبير وللتظاهر ولتشكيل منظمات مدنية كان أهمها بروز حركة كفاية ومن ثم حركة السادس من أبريل، وكان أهم ما تمخض عن الإصلاح دخول الثورة المعلوماتية بقوة لتفتح هوامش للتعبير وتخرج عن سيطرة النظم الاستبدادية التي تصدعت قداساتها السياسية بفعل هذه الثورة، لتفضي في النهاية إلى ثورة الفيس بوك التي أطاحت بهذه الأنظمة.

تقوضت هذه الأنظمة بعد أن أدخلت بعض الأكسجين لكهفها المعتم، ومن يهاجمون الإصلاح الآن، ويعتبرون من انخرطوا فيه أزلاما، هم من ينظرون إليه كمجرد تكتيك سياسي، ولا ينظرون إليه بعين التاريخ التي تقول أن الخطأ الجسيم الذي ترتكبه النظم الشمولية هو فتح هامش للإصلاح حتى وإن كان ديكوراً.

بمعنى أن أي نظام شمولي مغلق عندما يفتح هواءً للإصلاح سينهار عاجلاً أم آجلاً. النظام الشمولي مثل الصخرة الصلبة لا يمكن تفتيتها إلا بعد أن يحدث فيها صدع، والصدع هو هذا الإصلاح حتى وإن كان مزيفاً، لأن الهواء الذي يدخل عبره ليس مزيفاً، والخطأ الجسيم الذي ترتكبه النظم الشمولية هو فتح هامش للإصلاح، هذا ما حدث للاتحاد السوفياتي مع البريسترويكا، وما حدث في رومانيا وغيرها من التجارب التاريخية، فكل وطني يتم إدخاله إلى هذه المنظومة يصبح مثل حصان طروادة.

كم هي محظوظة مملكة النمل لأن ليس من ضمنها جماعة"أخوان مسلمون"!!

لقد أُسقط النظام الليبي وهو في ذروة قوته، والمفصل الأساسي في هذا ظهور بطل من الهامش لم يحسب حسابه السيناريو الذي رسمته القوى الكبرى للمنطقة، سيناريو الزواج المرتقب بين التوريث وجماعة الأخوان، كانوا أبطال الفلم المنتقين، لكن ظهور بطل آخر خارج السيناريو وهو محمد بوعزيزي قلب الفلم وسط ذهول المنتج والمخرج. ماذا فعل بوعزيزي بالضبط؟ هذا الشاب الذي لا يحلم في وطنه سوى بنصف متر مربع لعربة خضاره التي يعيش منها؟. إنه أحال مفهوم الانتحار إلى منطقة أخرى، ليس انتحارا من أجل برنامج سياسي أو من أجل جنة الخلد، لكنه من أجل الكرامة. هذه المفردة التي استيقظت في خيال الشباب على الفيس بوك لتنقل الثورة إلى كل المدن، ولتنتج هتافا جديدا على الشوارع العربية: الشعب يريد إسقاط النظام، لينتقل إلى مصر ثم إلى ليبيا. الكرامة الإنسانية كانت محركا، وذلك الدخان الذي تصاعد من جسد بوعزيزي تجاوز الدخان الذي تصاعد من أعلى برجين فوق الأرض.

عام 2008 كنت برفقة الصديق نجيب الحصادي، التقينا في دبي بالمعارض الليبي العنيد نوري الكيخيا، عندما استضافنا في أحد المطاعم على وجبة سمك، حدثنا بمرارة عن ليبيا وعن عدم إيمانه بكل الإجراءات الإصلاحية التي تحدث، وأن ما يحدث مجرد لعبة أخرى من ألعاب هذا النظام الذي اختطف ليبيا، فسألناه، وما البديل الذي تراه؟، فشرد بعينيه وفكر وقال بهدوء: ممكن انقلاب عسكري، ضحكنا وقلنا له هذا خيار مستبعد بعد تصفية الجيش والمؤسسة العسكرية، وحتى لو حصل مثل هذا البديل شبه المستحيل فماذا نكون استفدنا؟، عسكري آخر سيخطف ليبيا. فضحك وقال سأحكي لكما حكاية: كان أحد الموقوفين في سجن تركي شرس قد أجلسوه على خازوق، وكان يصرخ باستمرار، فجاءه السجان ليعرف ماذا يريد، فقال له انقلني على ذلك الخازوق الشاغر، واستمر في الصراخ، استغرب السجان ونقله على الخازوق الآخر ليستمر في الأنين والصراخ. فقال له: وماذا استفدت؟ فقال: استفدت هذه الخطوات بين الخازوقين.

فهل كانت تلك الخطوات بين خازوقين هي تلك الشهور القصيرة التي عشناها بعد سقوط النظام؟؟.

وما حدث أن ليبيا لم تنعم كثيرا حتى بمسافة التقاط الأنفاس بين الخازوقين، فمن خازوق القذافي الذي ألفناه بعد 42 سنة إلى خازوق جماعة الأخوان، الذين جعلوا الليبيين يترحمون على خازوقهم القديم، خصوصا مع فقدان ميزة التدرج التي صاحبت النظام السابق، غير أن عجلة الأخوان وداعميهم وأتباعهم ومن اشتروهم بالمال أو بالخوف أو من ابتزوهم بتسجيلات أو صور مشينة، جعلت هذا الخازوق أشد إيلاما وتعذيبا لشعب لم يستطع حتى إكمال ابتسامته بسقوط النظام الذي كان شبه مستحيل.

خرجت يوم 17 فبراير الماضي إلى الشارع وبعض المقاهي، وإلى بعض المآتم التي أصبحت المكان الوحيد لتجمع النشطاء السياسيين والاجتماعيين، وشهدتُ عن كثب مستوى الكآبة والإحباط وخيبة الأمل على وجوه الأغلبية، إن لم يكن الجميع، وذلك الندم الظاهر في أحاديثهم عن خروجهم في ذلك اليوم، هم أنفسهم الأشخاص الذين كانوا يحلمون بهذا اليوم وينتظرونه بفارغ الصبر، وهم أنفسهم الذين اكتظت بهم الميادين وعاشوا أياما من الفرح الغامر، ومن الضحك في مجتمع يتطير من كثرة الضحك. أحاول أن أقلب ما حدث؟ وما السبب الذي جعل يوم 17 فبراير كئيبا مثل اليوم الأول من سبتمبر، وخرجتُ بنتيجة واحدة أن جماعة الأخوان المحلية والإقليمية كانت وراء كل هذه الخيبة، بتآمرها على هذا المسار منذ الضربة الفرنسية للرتل القادم إلى بنغازي، وتأكدهم من إمكانية سقوط النظام، بعد أن أمسكوا العصا مع النصف طيلة الشهر الأول من الانتفاضة، وبعد أن بذلت قناة الجزيرة جل وقتها لتخلق من مجموعة منهم نجوما لهذه الثورة، مثلما اختارت صفوت حجازي ليكون القائد والشاهد(اللي ما شافش حاجة) للثورة المصرية.

وحين أقارن الآن بين ما حدث في ليبيا من بناء معجز للدولة بداية الخمسينيات، وبين ما يحدث الآن من تدمير معجز لليبيا، أكتشف أن الفرق يكمن في أن تلك الفترة لم تكن هذه الجماعة جزءا منها فاتخذ المسار السياسي طريقه بسلاسة لا مثيل لها.

وفعلا كم هي محظوظة مملكة النمل لأن ليس من ضمنها جماعة"أخوان مسلمون"!!.