Atwasat

ترحال:الحِبرُ والكتابة

محمد الجويلي الثلاثاء 24 فبراير 2015, 10:21 صباحا
محمد الجويلي

يرتبط فعل الكتابة ارتباطا شديدا ليس بالواقع التاريخي فقط، وإنّما كذلك بالمخيال البشري، أي الطريقة التي تتمثّل بها جماعة بشريّة سواء كانت شعبا أو فئة مثل فئة الكتّاب ذاتها أو فئة القرّاء لفعل الكتابة نفسه، ومن خلاله تتمثّل نفسها والآخرين والحياة برمّتها. ولعلّ أهمّ تمثّل للمخيال البشري للكتابة التقليديّة بأدواتها المعروفة من ورق وحبر وقلم هو ما أنتجه العرب في تصوّرهم للكتابة باعتبارها فعل إخصاب وتوليد وضمان ديمومة النوع الإنساني وتواصله في الكون.

إنّ النظر في بعض النصوص العربيّة القديمة يدعّم ما ذهبنا إليه سواء تعلّق الأمر بفعل الكتابة في مفهومها المجرّد، أي الكتابة بمعزل عن مضمونها ومنظورا إليها فى مستواها المادي والتقني أو في مفهومها الإنشائي والإبداعي. يكفي أن نتأمّل في"مادة حبر" في لسان العرب حتّى نتبيّن ما ذهبنا إليه. فالعرب لا يكادون يستعملون مادة"حبر" ومشتقّاتها إلّا للدلالة على كلّ ما هو إيجابيّ. فعلاوة على معاني الحبر، أي المداد الذي يُكتب به والوشي على الثياب والأثر على الجلد، من وشم وغيره والأثر على كلّ شيء، يطلقون الحبر على العالِم والرجل الصالح والرجل الناعم وعلى السرور، أي الحبور، وعلى النعمة والهناء والإكرام، والتحبير على حسن الخطّ والمنطق وتحسين الصوت(ابن منظور،لسان العرب،بيروت دار لسان العرب،المجلّد الأوّل،د.ت،ص.548 وما بعدها) ثمّ يتدرّجون شيئا فشيئا في استعمال هذا الجذر ومشتقّاته إلى أن يصلوا إلى ربطه مباشرة بالخصوبة والنّماء. يقول ابن منظور"والحبير هو السحاب وقيل الحبير من السحاب الذي ترى فيه كالتنمير من كثرة مائه"( ص.548) ثمّ يضيف"وأرض محبار: سريعة النبات حسنته كثيرة الكلأ[...] الأرض السريعة النبات السهلة الدفئة التي ببطون الأرض وسرارتها وأراضتها، فتلك المحابير وحبِرت الأرض وأحبرت[ أي أنبتت ]" قبل أن ينتقل معرّفا المحبرة بقوله"ويقال للآنية التي يجعل فيها الحبر من خزف كان أو من قوارير: محبرة ومحبرة كما يُقال مزرعة ومخبزة"(ص.549).

خير من يهدينا كذلك إلى ربط الكتابة عند العرب بدلالات الخصوبة والنماء هو تفسيرهم للأحلام، تفسير تناقلته الأجيال مشافهة جيلا بعد جيل ونسبته إلى محمد بن سيرين وإنْ كان في الحقيقة، إنْ لم يكن كلّه ففي معظمه، من إنتاج المخيال الجمعي ومن إبداع شعبي جماعي تراكم طيلة قرون. ما يهمّنا في هذا التفسير الذي هو في الحقيقة تأويل للواقع أكثر منه تأويلا للأحلام، هنا واقع الكتابة وتمثّلها الجماعي،هو تفسير رؤية الكتابة وأدواتها في المنام"القلم والدواة والمداد والورق". ومن البديهي أنّنا سنقوم بتأويل تأويل الكتابة وأدواتها في الأحلام في مرحلة أولى وربطها بما عرضنا له في تعريف ابن منظور لمادة"حبر" في لسان العرب لنذهب أعمق ما يمكن في فهم فعل الكتابة عند العرب باعتباره ليس تعميرا للورق فقط وإنّما تعميرا للكون برمّته وذلك بالبذر فيه وإنمائه. فرؤية القلم في المنام حسب هذا التفسير"يدلّ على ما يذكر الإنسان به كالولد الذكر وربّما دلّ على الذكر والمداد نطفته وما يكتب فيه منكوحة وربّما دلّ على السكة والأصابع أزواجه ومداده بذرها[....] وقِيل القلم ولد الكاتب ورأى رجل كأنّه نال قلما فقصّ رؤياه على معبر فقِيل له يُولد لك غلام يتعلّم علما حسنا"(محمد بن سيرين،تفسير الأحلام،القاهرة،المكتبة التوفيقية،د.ت،ص337-338 ) أمّا الدواة فهي"خادمة ومنفعة من قِبل امرأة، فمَن رأى أنّه يكتب من دواة اشترى خادمة ووطأها[...] وقال أكثر المعبّرين أنّ الدواة زوجة ومنكوح وكذلك المحبرة، إلّا أنّها بِكْر"(المصدر نفسه،ص.338) والصحيفة"مَن نظر إليها ولم يقرأ ما فيها فهو ميراث يناله[...] ومَن رأى أنّه وهبت له صحيفة، فوجد فيها رقعة ملفوفة فهي جارية وبها حبل" (م.ن،ص.339) و أخيرا يذهب هذا التفسير إلى تأويل رؤية الكاتب نفسه في الأحلام والذي يعتبره أنّه"ذو حيلة وصناعة لطيفة مثل الإسكافيّ قلمه كالأشفى والإبرة والمداد كالشيء الذي يخرم به من خيوط وسيور وكالحجّام وقلمه مشرطته ومداده دمه وكالرقام والرفاه ونحوهما وربّما دلّ على الحرث، والقلم كالسكة والمداد كالبذر" (م ن،ص.340).

خير من يهدينا كذلك إلى ربط الكتابة عند العرب بدلالات الخصوبة والنماء هو تفسيرهم للأحلام، تفسير تناقلته الأجيال مشافهة جيلا بعد جيل ونسبته إلى محمد بن سيرين

ما يلفت الانتباه هو أنّ معاني الخصوبة والولادة والنماء وتجدّد الحياة في الطبيعة والنوع الإنساني المرتبطة بفعل الكتابة تستمدّ قيمتها من تحقيق الهناء والسعادة بتوفير الغذاء والذرّية ومدلولها من اعتبار الأرض والمرأة وجهين لحقيقة واحدة وحرثهما بل الكتابة فيهما هو شرط ضروريّ لخصوبتهما وولادتهما وتبعا لذلك تحقيق زينة الحياة الدنيا. طبعا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المرأة في هذه النصوص التراثيّة القديمة تبدو موضوعا للولادة والخصوبة أكثر ممّا هي أداة فاعلة فيها وهذا موضوع إشكالي يتطلّب لأهمّيته اهتماما خاصا، لأنّه لا يخفى على أحد إجحافه في حقّ المرأة بما في ذلك الكاتبة التي يجد المخيال صعوبة كبيرة في تصنيفها ضمن الحارث أم المحروث، اللّهم إذا حصر فعل الكتابة في الذكورة دون الأنوثة!!
كلّ الأدوات المستعملة في الكتابة هي في تشكّلها الرمزي وفي تمثّلات المخيال الجماعي لها أدوات لإخصاب الأرض ولإخصاب المرأة على حدّ السواء. فلتكون الأرض محبارا أي سريعة النبات كثيرة الكلأِ، ومحبرة، بمعنى مزرعة أو(حتّى مخبزة بطريقة غير مباشرة، بمعنى توفّر الخبز وهو مادة العيش الأهمّ) لا بدّ من أن تُمطر بمطر غزير ينبئ به حبير أي سحاب كثير الماء كما لا بدّ من توفر السكة أي المحراث لفلحها تماما مثل المرأة التي إذا لم تكن صحيفة أي سبق وأنّها بها حبل لا بدّ لها حتّى تكون معطاءة وولّادة من كاتب حرّاث يعْمل قلمه- سكّته فيها ويمْطرها بمداده فهي في كل الحالات محبرة التي وإنْ دلّت على الخادمة عند بعض المعبرين، فإنّ أغلبهم يرى أنّها تدلّ على زوجة ومنكوح إلّا أنّها بكْر أي لم تُحرث ولم تلد بعد ولكنّها تعد مثل الأرض البكر المحبار إذا حبّرت أي بُذِرت على أحسن وجه أكثر من غيرها من النساء لفعل الولادة وتجديد الحياة ونمائها وتعميم الخير في الكون.

الكتابة إذن فعل توليدي بقدر ما هي فعل متعة لا يمكن أن نفصل بينهما وارتباطهما هو مثل ارتباط ظاهر الورقة بقفاها، وإذا كان السياق لا يسمح بإجراء مقارنة بين ما وصل إليه رولان بارت(Roland Barthes) أحد أهمّ نقاد الأدب والسيميائيات في العصر الحديث وهو ينظّر للكتابة تحت تأثير التحليل النفسي الحديث في كتابه"متعة النصّ" وهذه النصوص التراثيّة العربيّة القديمة، فإنّه لا بدّ من الإشارة إلى أنّ ما ورد في كتابه ومازال يملأ الدنيا ويشغل الناس باعتباره عين الجدة والابتكار والحداثة في فهم فعل الكتابة بأدواته التقليديّة بوصفه شبيها بالفعل الجنسي الذكوري: القلم أداته وسيلان الحبر مصدر لذّته قد سبقته إليه هذه النصوص العربيّة، بل أكثرها شعبيّة ونتاجا تبعا لذلك مثلها مثل النصوص الفلكلوريّة للّاوعي الجماعي وأبعدها عن تنظير الخاصّة العالِمة. وفي الحقيقة فإنّ اعتبار فعل الكتابة بوصفه فعلا توليديّا وإخصابيّا في المقام الأوّل هو ما تجمع عليه الخاصة والعامة والثقافة الشفويّة الشعبيّة والثقافة العالِمة وما يقوله الجاحظ فيما يلي خير ما يدعّم ما رأيناه في تفسير الأحلام، بل قل في تفسير الواقع إذا ما سمحنا لأنفسنا بتغيير عنوان هذا الكتاب بعد تأويل تأويله"وسماع الألفاظ ضارّ ونافع. فالوجه النافع[...] أن يختمر في صدره[ أي الكاتب ] فإذا طال مكثها تناكحت ثمّ تلاقحت فكانت نتيجتها أكرم نتيجة وثمرتها أطيب ثَمَرة[...] وبين الشيء إذا عشُش في الصدر ثمّ باض ثمّ فرّخ ثمّ نهض وبين أن يكون الخاطر مختارا واللّفظ اعتسافا واغتصابا فرق بيّن"(رسالة المعلّمين،في رسائل الجاحظ الأدبية،بيروت.دار ومكتبة الهلال،1987،ص.207).

يتيح لنا الجاحظ وهو ينظّر لفعل الكتابة أن نذهب بالتحليل الانتروبولوجي إلى أبعد مداه وهو ما يُعتبر أحد مظاهر عبقريّة هذا الكاتب وحداثته الدائمة، فالألفاظ النافعة الصالحة للكتابة المولّدة للعقول مثلها مثل البويضات الذكوريّة والأنثويّة التي إذا ما تهيّأت لها الظروف المناسبة للالتقاء والتناكح والتلاقح ووجدت رحما ملائما يحتضنها ويوفّر لها الإطار الطبيعي للنموّ على أحسن وجه قبل أن تعرف النور، فهي ستنجب مولودا موفور الصحّة بهيّ الطلعة: كتابة مثمرة تنقل معرفة طيّبة وعلما يعود بالنفع على المجتمع ويساهم في ازدهاره. ولا يكتفي الجاحظ بهذه الصورة القائمة على الاستعارة التي يستقيها على الأرجح من معجم الولادة لدى الحيوان والإنسان على حدّ السواء، فيستعير صورة أخرى من معجم الخصوبة لدى الطيور فيصير صدر الكاتب عشّا تعشّش فيه الطيور، طيور الإبداع فتبيض وتفرّخ الألفاظ قبل أن تستوي على قدميها وتنهض عصافير متحفّزة للطيران والتحليق بعيدا في سماء العلم والآفاق الرحبة للمعرفة.

أن يستعير الجاحظ الطير للكتابة، فهذه الاستعارة ليست من الصور التي يمكن للانتروبولوجي أن يمرّ عليها مرور الكرام. فعلاوة على أنّها تستمدّ مدلولها من معجم الخصوبة، كما قلنا، الذي لا يمكن فهمه خارج سياق ثقافي ورؤية للعالم مسكونة بتعمير الكون وتجديد النوع ومقاومة الجدب والقحط، هذه الخصوبة التي أفضل ما يجسّدها على أحسن وجه في الكون هي الطيور والعصافير التي يقول فيها الجاحظ في رسالة أخرى"أنّ أقلّ الأعمار هي أعمارها، لكثرة سفادها[ مقارنة بالبغال ] الطويلة العمر لقلّة النَّزو لديها" (كتاب مفاخرة الجواري والغلمان،في رسائل الجاحظ الأدبيّة، بيروت،دار ومكتبة الهلال،1987،ص.185)، فإنّها تعود إلى ما للطير من قيمة في المخيال الإنساني برمّته في العصر الوسيط باعتباره أفضل من يعقد الصلة في الكائنات الحيّة بين الأرضي والسماوي وأحسن ما يترجم معنى الحرّية، حريّة الحركة والفعل التي تنشدها الكتابة العالمة التي تطارد المعرفة وتحلّق نحوها مسافرة ولو كانت في الصين. ولا شكّ أنّ الكتابة العالمة مازالت تنشد إلى اليوم هذه الغاية ولعلّ استعارة الطيران الجاحظيّة لها لا تجد لها تجسيدا وتحقيقا فعليّا يصل إلى أقصى ما يمكن أن يتخيّله الذهن البشري للطيران وسرعته، مثلما تجده في الكتابة الالكترونيّة، حيث يطير المكتوب في لمحة البرق ولكن مجرّدا من القلم والورق والحبر والدواة ليجوب أصقاع العالم كلّه وهو ما لا تقدر عليه أسرع الطيور والطائرات التي ابتكرها الإنسان لإخضاع المسافة والسرعة، المكان والزمان على حدّ السواء.