Atwasat

فبراير أبداً

سالم العوكلي الثلاثاء 27 يناير 2015, 10:50 صباحا
سالم العوكلي

كيف يمكن زحزحة نظام مستبد، يستمد شرعيته واستمراريته من القوة، خصوصا إذا استطاع هذا النظام أن يرسخ قواعده طيلة عقود، شاغله أثناءها أن يبقى إلى الأبد، مدعوما بثروات هائلة وبضعف في البنى الثقافية والسياسية للمجتمع المحكوم، وببعض التناقضات الاجتماعية التي يتلاعب بها، مثل تلاعبه بالتناقضات الدولية وفق ما يخدم مشروعه الاستبدادي.

كل هذه المعطيات جعلت الليبيين في فترة من الفترات يصلون إلى درجة اليأس من إمكانية التخلص من هذا النظام، والمفارق أن هذا اليأس سيتحول مع الوقت إلى هلوسة بكابوس مصيرنا ما بعد النظام إذا ما انتهى نهاية طبيعية، وعادة ما تصل النظم الدكتاتورية بالمجتمعات، في لحظة ما، إلى مرحلة خوفها من نهاية الدكتاتور، بسبب تفريغ البلاد من كل البدائل الآمنة.

لقد وصل الحال بالليبيين إلى أن ينتظروا نهاية الدكتاتور الذي بدأ يشيخ بالموت الطبيعي، لكن بمجرد أن بدأ سيناريو التوريث يعلن عن مقدماته أدركوا للحظة أن مقولة الفاتح أبدا طموح حقيقي للنظام وليست مجرد شعار سريالي.

ومع عودة النظام إلى قوته - بعد تصفية ملف لوكربي، وتهاطل زعماء الدول القوية على باب العزيزية، والزيادة العالية في أسعار النفط، وتغير المعادلات الدولية والإقليمية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر- وصل اليأس لدينا إلى ذروته، وتحول فعلا إلى مرحلة القلق من نهاية دكتاتور لم يفصح أبدا عما بعده إلا بإشارات، مازالت غامضة، عن التوريث الجمهوري أو الجماهيري الذي بدأ في سوريا وانتقلت عدواه إلى مصر وتونس واليمن، وهروبا من كابوس نهاية نظام، لا يعد بما بعده، رأى الكثير من الليبيين بصيص خلاص في الوريث سيف الإسلام الذي بدأت خطاباته القصيرة تدغدغ عواطف جموع كثيرة، بأحاديثه عن التنمية، والإصلاح وليبيا الغد، والدستور، وحربه على اللجان الثورية والقطط السمان، وغيرته الواضحة من دول الخليج، وتحالفه مع فئة الشباب التي تزيد نسبتها عن 65% من المجتمع الليبي، وأصبح الكثيرون ينتظرون خطابه في 20 أغسطس بكل اهتمام، وأذكر أنه قال في خطابه الذي ألقاه عام 2009 بمدينة سبها، إنه اختارهذا اليوم لأنه ذكرى لانتصار 3000 يوناني على عشرات الألوف من الفرس في المعركة الشهيرة، مبررا هذا الانتصار بكون هذه القلة كانت تدافع عن الديمقراطية، بينما الكثرة كانت تدافع عن الاستبداد، وفي الخطاب نفسه دحض مفهوم الشرعية الثورية، حينما أشار إلى أن بن غوريون الذي حقق حلم اليهود شبه المستحيل في تأسيس دولة لهم في أرض الميعاد، ترك السلطة بعد سنوات قليلة وذهب إلى مزرعته.

سقط النظام الليبي بشكل فاق مخيلة التاريخ، وبنهاية لم تخطر على بال رائد الواقعية السحرية في الرواية ماركيز.

كانت هذه الكلمات تدغدغ الكثيرين، بل تعبر بصراحة عما في داخلهم، أما القلة المشككة في تكتيكات سيف فكانت ترى أنه استمرار لحكم والده، وهم يتذكرون أريحية والده في بداية حكمه وتقبله للنقد في لقاءاته بالطلاب والمثقفين إلى أن تمكن من زمام الدولة وأعلن عن محتواه الاستبدادي الحقيقي، لينشيء إحدى أعتى الدكتاتوريات بمقياسها المتخلف الذي لا مشروع له.

غير أنه طيلة هذه العقود التي أحكم فيها سيطرته لم يكن مطمئنا إلى ثبات وقوة ركائز نظامه، وكان يلاحقه خوف مستمر من المؤسسة العسكرية التي جاء منها، ومن الجموع كما ذكر مرارا في كتاباته. كان ثمة رفض ومقاومة لم تهدأ، ولكن مثلما كان نظامه القمعي ضعيف المؤسسات ومليئا بالفجوات كانت المعارضة تعاني من نفس الضعف، باعتبارهما، نظاما ومعارضة، خارجين من بنى المجتمع المتخلفة نفسها والتي لم تُكرس فيها مفاهيم راسخة للدولة أو الهوية أو الحنكة السياسية.

بدأت هذه المعارضة عن طريق محاولات انقلابية من قبل المؤسسة العسكرية، سرعان ما أُجهضت، إلى أن وصل إلى تفكيك هذه المؤسسة ومحاربة مفهومي الجيش والشرطة التقليديين، كما بدأ حراك في الجامعات والاتحادات الطلابية أدى إلى خروج مظاهرات منذ بداية السبعينيات تتمثل مطالبها في الدفاع عن استقلالية الاتحادات الطلابية والدفاع عن الحرم الجامعي إلى أن تم قمعها بقوة في أبريل 1976، فشنق الطلاب الحركيون في الساحات العامة وسجن البعض، ومن ثم كان الصدام مع المثقفين والكتاب عام 1978 وتحييدهم من الصراع عبر وضعهم في السجون، أما النخب السياسية الناشئة فبعضها التحق بالنظام والبعض غادر إلى المنفى لتأسيس حركات وتنظيمات معارضة في الخارج.

كان ثمة حراك خلال عقد السبعينيات لكنه كان مفصولا عن الجمهور الذي مازال في حالة وجد تجاه هذه القيادة الثورية الجديدة، بالشعارات التي يرفعها، وبالمشاريع الضخمة التي تنجز، وبزيادات مطردة في المرتبات وغير ذلك من تكتيكات رشوية من أجل ترسيخ قواعد الدكتاتورية.

أذكر في حوار أجريته لصحيفة ميادين مع المعارض نوري الكيخيا، في القاهرة مايو 2011م، أنه قال ما مفاده: بعد النقاط الخمس ذهب إلى لبنان وهناك التقى بالمفكر حسين مروة وأخبره أنه يفكر في تأسيس تنظيم معارض، فقال له: لا تحاول أن تهاجم نظاما وتيرته في تصاعد لأنه سيحرقك. النظم تواجه عندما تنحدر وتيرتها. وفي تلك الفترة كان نظام القذافي متصاعد الوتيرة، على المستوى المحلي والإقليمي، ومحروسا من قوى أجنبية مخفية كثيرا ما تظهر مصالحها حين لا نتوقع.

الثمانينيات كان أسوأ عقد مر بليبيا، وعلى جميع الأصعدة، حيث وصل الاحتقان إلى مداه، وكشفت الغارة الأمريكية عن هشاشة النظام ونفاق مؤيديه، وظل الكثير منا يقول كانت تلك فرصة مواتية للانقضاض على النظام، لكن الساحة كانت خالية من أية بذرة حراك حقيقي، بعد أن تمت تصفية النخب الواعية لحقيقته، وكان المجتمع، مثل النظام، مرتبكا برمته.

تغير القذافي بعد عام 1986، وهو منعطف يشكل تحولا هاما في آليات دكتاتوريته قد يتضح لكل باحث في هذا التاريخ، وحاول أن يبدأ بعض السياسات الانفراجية، وينفتح بعض الشيء على الداخل، فأخرج معظم سجناء الرأي، ومزق قوائم الممنوعين من السفر، وبدأت إرهاصات عودة القطاع الخاص والاقتصاد الحر منذ بداية التسعينيات، غير أن تفجير طائرة لوكربي واتهام النظام الليبي، وما ترتب عنه من عقوبات دولية، وضع النظام والبلاد في حالة عزلة تامة، وداخل هذه العزلة نسج من جديد خيوط دكتاتوريته الجديدة، وتبدلت سياساته الخارجية فتبرأ من القومية التي جلد بها الشعب كثيرا ليتفرغ للفضاء الإفريقي، وكان عقد التسعينيات عقد تغيير جلده وآليات استمراره في السلطة.

وصل الحال بالليبيين إلى أن ينتظروا نهاية الدكتاتور الذي بدأ يشيخ بالموت الطبيعي، لكن بمجرد أن بدأ سيناريو التوريث يعلن عن مقدماته أدركوا للحظة أن مقولة الفاتح أبدا طموح حقيقي للنظام وليست مجرد شعار سريالي.

إبان هذه المراحل كانت تنظيمات المعارضة خارج ليبيا تنشط حينا وأحيانا تخمد، وباطمئنانه على الداخل توجه لمحاربة المعارضة المزعجة في الخارج، بين تصفية جسدية وملاحقة وشراء ذمم دول حاضنة وإرغام قبائل على التبرؤ من أبنائها المعارضين وتدبيج تهم مزعومة لهم ومطاردتهم عبر الانتربول، إلى أن وصل الأمر إلى مفاوضات مع بعض رموز المعارضة وتأمين عودتهم، وهي تكتيكات فرضتها متغيرات دولية مهمة خصوصا بعد سقوط أعتى وأقوى نظام دكتاتوري في المنطقة وشنق صدام حسين، الأمر الذي أثار رعبا لباقي العروش المتكلسة.

أهدرت المعارضة في الخارج إمكاناتها ووقتها في الكثير من المعارك الجانبية والصراع على النفوذ أو التمويل الذي تتلقاه، وكانت جبهة إنقاذ ليبيا أنشطها وأكثرها براغماتية وأبرزها تصادما مباشرا مع النظام، وهي الجبهة التي حوت الكثير من التيارات الليبية، بمن فيهم الأخوان المسلمون، الذين أثاروا انشقاقات حادة داخلها وأضعفوها إلى حد كبير، لكن العمل على توحيد الجهود لم يخفت وسط إحساس بأن تلتف كل التيارات تحت حراك وطني موحد ومؤثر، وكانت ذروة هذا الحراك في عقد مؤتمر لندن عام 2005م، ذلك المؤتمر الذي قاطعه الأخوان وحاولوا عرقلته بعد أن عقدوا صفقات مشبوهة مع النظام تصب في إمكانية المشاركة السياسية، ورعاية مشروع التوريث، وكانت طبيعة هذا التنظيم البراغماتية جاهزة لأية صفقة ممكنة.

فجأة ظهر الهتاف الشهير: الشعب يريد إسقاط النظام ومن مكان غير منظور، في تونس الدولة البوليسية بامتياز، لتنتقل بعدها إلى مصر ويسقط النظامان خلال شهرين، ويبقى النظام في ليبيا مكشوفا لكل الرياح، وهو الأمر الوحيد الذي لم يحسب حسابه دكتاتور ليبيا، لذلك بدأت ردات فعله مرتبكة ومضطربة بشكل كشف لليبيين من جديد هشاشة هذا النظام، الذي كان يملك أوراقا كثيرة، لكنه لم يلعب أيا منها، وكان العناد والمكابرة الخطوة الأولى في طريق نهايته، خصوصا وأنه طيلة 4 عقود لم يحتفظ بأي أصدقاء يثقون به في هذا العالم الواسع. سقط النظام الليبي بشكل فاق مخيلة التاريخ، وبنهاية لم تخطر على بال رائد الواقعية السحرية في الرواية ماركيز.

لكن الكابوس الذي راود الليبيين كثيرا، كابوس ما بعد نهاية القذافي، بدأ فعلا، وجزء من مفارقة الدكتاتورية الطاعنة في السن أنها تخيف من يتمنون نهايتها من نهايتها، لأن المبنى الذي تتركه بعدها يكون مفخخا بالكامل، وكل زاوية فيه قابلة للانفجار، ألغام في كل مكان لا يعرف خارطتها إلا من وضعها.

كل دكتاتور يقلقه سؤال الموت سيصب جهده على إمكانية أن يحكم وهو ميت ، إذا لم يكن عبر أبنائه وأحفاده البيولوجيين، فعبر تلاميذه الذين أرضعهم ثقافته حتى الثمالة. وكثيراً ما يكون التلاميذ أكثر نجابة من أستاذهم، بل وأكثر قسوة، حين يكون فن الاستبداد هو الدرس المستفاد من طرفهم.

يسقط النظام ونغير العلم والنشيد الوطني، ونهلل لعصر جديد، ويغدو لنا يوم جديد نحتفل به، وعطلة جديدة، يدخل فبراير بقوة الهتافات والملصقات والأغاني الليبية، لكن يبدو أنه حتى الآن، الفاتح مازال أبدا، إلى أن يقتل كل ليبي الدكتاتور الذي بداخله.