Atwasat

ترحال: الحكومةُ التونسيّةُ الجديدةُ: تَمخَّضَ الجبلُ فولد فأراً

محمد الجويلي الإثنين 26 يناير 2015, 10:31 صباحا
محمد الجويلي

هاتفني صديق، لم أره منذ ثلاثين عامًا ولا أعرف كيف حصل على رقم هاتفي الخلويّ، عشيّة تشكيل حكومة الحبيب الصيد في تونس يهنّئني بعضويتي في الحكومة الجديدة وزيرا ثمّ، متداركًا، كاتب دولة. وهي مرتبة، لمن لا يعلم، دون الوزير، ولكنّها تقع تحته مباشرة وفي جبّته في الترتيب الإداري الوظيفي، يبدو أنّه يطلق عليها في بعض البلدان العربيّة الأخرى وكيل وزارة، هذا إذا لم أخطئ في هذه المقارنة لعدم اهتمامي بالوظائف الإداريّة وعدم معرفتي بتراتبيتها.

ولكنّه كان مستغربًا في ذات الوقت قبولي بهذا المنصب. أوّلا لأنّه يراني وزيرًا كاملاً تام الصفات وليس مجرّد كاتب، حتّى وإن كان كاتب دولة. وثانيًا، قال لي لأنه شاهدني مساء يوم الانتخابات الرئاسيّة في 21 فبراير الماضي على قناة «فرانس24» أعلّق على نتائج الانتخابات مباشرة من باريس أقول بعظم لساني وأمام الملأ «إنّني لست طامعًا في منصب لا في قائد السبسي ولا المرزوقي».

لعلّ الحجّة الأخيرة التي ساقها تعود إلى الإحراج الذي شعر به لمّا أعلمته أنّني لست المعني بالاستوزار ولا بالكتابة، ما عدا كتابة الكتب والمقالات، ليس رفضًا لحمل الوزر في المطلق، وإنّما تحمّل وزر منصب في حكومة وبلد تحوّلت فيها الوزارة، أحيانًا، في السنوات الأخيرة، إلّا لمن رحم ربّك، إلى غنيمة حرب، وأحيانا إلى «عظم» يلقي به أصحاب النفوذ الحقيقيون في البلاد إلى الطمّاعين والوصوليين الذين لا همّ لهم إلّا خدمة مصالحهم الشخصيّة والتمعّش من عذابات شعب انتظاراته بحجم الجبال ولا مشروع حقيقيًا لديهم للنهوض بالقطاعات التي يُستوزرون فيها، ما عدا بيع الأوهام. وهو أمر لا يشرّفني.

هذا ما جعلني، قلت لصديقي وهو ينصت إليّ بانتباه، أقول ما قلته في القناة المذكورة ليس عشيّة الانتخابات فقط، وإنّما قبل ذلك بأعوام ومباشرة حين رأيت بأمّ عيني بُعَيْد انتخابات 2011 كيف يجري ويلهث الفاشلون في وظائفهم الأصليّة التي أناطها الشعب بعهدتهم في سباق محموم وتكالب على السلطة لم تشهد له تونس مثيلا في تاريخها المعاصر إلّا في آواخر القرن التاسع عشر قبيل الاحتلال الفرنسي للبلاد كما نقله لنا مؤرّخ تونس في ذلك العصر أحمد بن أبي الضياف في كتابه «إتحاف أهل الزمان في تاريخ ملوك تونس وعهد الأمان» والبلاد آنذاك مفلسة ترزح تحت الديون ومرتهنة للخارج والقوى العظمى وخزينة الدولة فارغة «ووزراؤها كالأوتاد تُشجّ ولا حول لهم ولا قوّة» على حدّ تعبيره والبلاد «بقرة ينزُّ ضرعها بالدم» وهي استعارة وردت على لسان الجنرال الوطني حسين وهو من الضمائر الحيّة لذلك العصر، استعارة ليست صالحة لتوصيف حالة تونس في تلك الفترة وإنّما لتوصيفها اليوم لربّما أكثر من أيّ وقت مضى في تاريخ تونس بعد الاستقلال.

كان التونسيون يُمنّون النفس بعد انتخاب أولّ برلمان وأوّل رئيس جمهوريّة في البلاد بصفة ديمقراطيّة بتشكيل حكومة قويّة تستطيع أن تحوز على ثقة الغالبيّة من التونسيين وأن تكون محلّ إجماع وتوافق بين القوى السياسيّة الكبرى، إنْ ليس كلّها فعلى الأقلّ بعضها، حتّى تستطيع تحمّل وزر الأعباء التي تنتظرها في التشغيل، خاصة تشغيل الشباب المقاطع الأكبر لهذه الانتخابات، أو المصوِّت الأكبر فيها بالغياب، والذي ليس في حاجة في الحقيقة لوزارة أو لكتابة تبيع الريح للمراكب وتبذّر الأموال وإنّما في حاجة إلى التشغيل ومن الأفضل أن ترفق بالوزارة المعنية به «وزارة التشغيل» ترشيدًا للنفقات في بلد على حافة الإفلاس. وما يُقال عنها يُقال عن وزارات وكتابات دولة أخرى كان من الأجدر ضمُّها إلى بعضها البعض لهذا السبب. كان هؤلاء يحلمون بحكومة قويّة بإجماع التونسيين حولها تضع نصب أعينها التنمية، خاصة تنمية المناطق والجهات المحرومة التي صارت الحاضن الأكبر للعنف والجريمة والإرهاب وتبعًا لذلك تمثّل هاجسًا للوطن كلّه، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.

النسبة الأكبر التي صوّتت لحزب «نداء تونس» في الانتخابات التشريعيّة ولرئيسه الباجي قايد السبسي في الرئاسيّة كانت تمنّي النفس بحكومة قويّة ذات كفاءات سياسيّة وفكرية تحديثيّة ملتزمة وهو حزب يعجّ ضمن منخرطيه بمثلها في سائر الاختصاصات حتّى تقطع نهائيّا مع تجربة الترويكا الماضية التي يحمّلها هؤلاء المسؤولية فيما تردّت إليه البلاد من عنف وتدهور اقتصادي، فخاب أملها وبدأ البعض منها يتململ ويعبّرعن غضبه.

كان التونسيون يُمنّون النفس بعد انتخاب أولّ برلمان وأوّل رئيس جمهوريّة في البلاد بصفة ديمقراطيّة بتشكيل حكومة قويّة تستطيع أن تحوز على ثقة الغالبيّة من التونسيين وأن تكون محلّ إجماع وتوافق بين القوى السياسيّة الكبرى

لم تتوحّد القوى السياسيّة الأكثر تضادًّا ووقوفًا على طرفي نقيض والتي خلنا لوقت طويل أنّها لا يمكن أن تجتمع على شيء وتتوافق على رأي كما هي متوافقة اليوم على رفض حكومة الصيد. النهضة غاضبة ومحبطة، وهي التي لم تعترض على حكومة الصيد باعتباره كان وزيرا في حكومتها ولربّما باركته، وتجد نفسها اليوم في أشدّ الإحراج وفي ورطة حقيقيّة أمام أنصارها ومناضليها بعد إقصائها من الحكم. لقد نهج زعماء النهضة الفاعلون، وعلى رأسهم الغنوشي، نهج التوافق، الإرادة التوافقيّة كانت هي حجر الزاوية في سياستهم منذ تخليهم عن السلطة لصالح حكومة كفاءات وطنيّة في بداية 2014، حتّى أنّهم ذهبوا إلى الدعوة إلى اختيار رئيس بالتوافق، وهي سابقة في التجارب الديمقراطيّة.

سنة كاملة قضّاها هؤلاء يقنعون أنصارهم بأنّه لا بديل عن الحكم شراكة مع القوى السياسيّة الأخرى، بما في ذلك العلمانيّة، ولا مناص، حسب نظرهم، من تشكيل حكومة وحدة وطنيّة في أوّل تجربة حكم بعد انتهاء المرحلة الانتقاليّة، حتّى في حالة فوزهم بالأغلبيّة في البرلمان. لم يفوزوا، بل فازوا بالمرتبة الثانية ب69 مقعدًا وعبّروا عن نيتهم واستعدادهم للحكم شراكة مع النداء ودخلوا في مفاوضات مع الحبيب الصيد خرجوا منها بخفي حنين، أو فضّلوا أن يخرجوا منها كذلك عوض أن يُساقوا إلى الحكم في ذلّ وهوان، وهو أضعف الإيمان.

من الجهة اليسرى أعربت الجبهة الشعبيّة - وهي ثالث قوّة في البلاد وتمتلك شرعيّة النضال والتاريخ والتي وسمت بطابعها الخاص المرحلة الانتقاليّة السابقة وصبغتها بدماء قادتها ومناضليها والتي يعتبرها الكثير من الملاحظين السياسيين الحاضن الحقيقي لنداء تونس زمن الشدّة وأيّام كان حزبًا يافعًا لم يستو على قدميه بعد، فمدّته بشرعية كان يفتقدها وبيّضته وطهّرته وقدّمته بالتحالف معه في جبهة الإنقاذ في ثوب جديد وهو الذي كان يُنظر إليه من العديد من التونسيين باعتباره إعادة إنتاج لحزب التجمع القديم- عن رفضها رفضًا باتًا لتعيين الحبيب الصيد رئيسا للحكومة بوصفه تقمّص جبتين في ذات الوقت: جبّة التجمّع وجبّة الترويكا، وهو كثير، وهاهي الآن ترفض حكومته جملة وتفصيلا. كانت «تشخر زادت بف» كما يقول المثل الشعبي: حزب «آفاق تونس» الليبرالي القريب من «نداء تونس»، خامس كتلة في البرلمان، الذي زكّى قائد السبسي ودعا إلى انتخابه رئيسًا للبلاد يجد نفسه يخرج غاضبًا في آخر لحظة من المفاوضات حول تشكيل الحكومة هو نفسه بخفّي حنين، هذا علاوة على أحزاب وشخصيات أخرى سياسيّة وفكريّة من الذين ساندوا زعيم حزب نداء تونس مثل كمال مرجان زعيم حزب «المبادرة» الذي صرخ مستنكرًا محذّرًا من ضعف الحكومة وتبعات ذلك الدراماتيكيّة على البلاد أو من الذين ساندوا منافسه المرزوقي والذين لا يجمعهم شيء اليوم عدا رفض حكومة الصيد شكلاً ومضمونًا.

لم تتوحّد القوى السياسيّة الأكثر تضادًّا ووقوفًا على طرفي نقيض والتي خلنا لوقت طويل أنّها لا يمكن أن تجتمع على شيء وتتوافق على رأي كما هي متوافقة اليوم على رفض حكومة الصيد

الحصيلة أنّه هناك أكثر من مائة نائب وهي النسبة الغالبة في البرلمان الجديد يعارض هذه الحكومة وهي تتشكّل في المهد، فما بالك وهي تشتغل وتعترضها المطبّات وهي كثيرة، فحتّى إذا ما وقعت تزكيتها مناورة وخدعة للشعب، فإنّ الأرجح هو أنّها لن تستطيع الصمود طو يلا لو قرّرت مثلا القوّة الضاربة الصامتة الآن في البلاد والتي كان لها الدور الأساس في رعاية الحوار الوطني الذي أنقذ البلاد منذ سنة من السير نحو الهاوية: الاتحاد العام التونسي للشغل أن يفتح كلّ الملفّات: الزيادة في الأجور والتخفيض في الأسعار والفساد وغيرها. لماذا كلّ هذا الهدر للوقت وللطاقات الذي لا طاقة عليه لبلد رنّحته الأيّام؟ يتساءل الكثير من التونسيين، ولماذا كلّ هذه العجلة في تشكيل حكومة يتوقف عليها مصير البلاد والعباد؟ أ ليس من الأجدر التريث لبعض الوقت في تشكيلها حتّى تنضج المفاوضات، ما دامت هناك حكومة قائمة الذات تسير الأعمال؟.

التجربة التونسيّة التي رأى الكثير عبر العالم أنّها رائدة تتعثّر لعدّة أسباب: غلبة المصالح الحزبيّة الضيّقة على مصلحة الوطن وعدم توفّر الشجاعة السياسية الكافية التي تجعل الساهرين على دواليب الدولة يهابون مواجهة المشاكل وجها لوجه ويفضّلون التخفّي وراء شخصيات يبعثون بها إلى الجحيم يطلقون عليها بالكفاءات الوطنية وما بعضها من الكفاءات وإنّما شخصيات انتهازيّة لا همّ لها إلّا الكرسي «تنعق مع كلّ ناعق وتميل مع كلّ ريح» على قول الإمام علي، يسهل ركوبها كما تُركب الدواب المروّضة. وهذا هو توصيف لحالة حكومة الصيد اليوم التي، وإنْ تضمّنت كفاءات وشخصيات وطنيّة لا يرقى إلى تاريخها وكفاءتها الشكّ، فإنّ هذه الشخصيات توجد جنبا مع جنب في كوكتال غير متجانس وهجين، مع أعضاء في حكومة يجّسدون أحسن تجسيد الرداءة التي تردّت فيها البلاد وكانت في كلّ العقود الأخيرة السبب في مأساتها.