Atwasat

كنت في القاهرة يوم 25 يناير 2011م

أحمد الفيتوري السبت 24 يناير 2015, 09:42 مساء
أحمد الفيتوري

نامت القاهرة على صبح لا تعرفه، ونمت لأنّي لم أنم ليلة سفري، لذا في غرفتي بفندق بشارع الخليفة المأمون بمصر الجديدة نمت من التاسعة مساء حتى الرابعة فجر الجمعة.

فندق الأشباح ساكت كما الشارع الرئيسي، من نافذة الغرفة أطللت على مبنى عسكري ملاصق لآخر، أكاديمية الأركان لم تشِ بشيء غير الظلام فالشوارع مضاءة في مصر بفوانيس معتمة. لذا غطست في التلفزيون، كانت محطة العربية تجذب ما يحدث في مصر نحو الاستقرار، فيما تجذبه محطة الجزيرة نحو الثورة، ولم يكن ثمة جديد ساعتها لذا لذت بالصحف التي اشتريتها من المطار وتصفحتها فيه.

في المطار لم أتمكن من الاطلاع على الصحف بسبب الازدحام، القادمون كثر وخاصة من جاء لحضور دورة معرض كتاب القاهرة الذي من المفترض افتتاحه يوم السبت 29 يناير الجاري، كثير من الليبيين شاهدتهم في المطار قادمين لذلك، بعض منهم رافقني رحلتي من مطار بنينا ببنغازي.

كانت أذناي في الشارع، وعين على شاشة التلفزيون وعين تتصفح ورق الجريدة: مانشيت جريدة الشروق الرئيسي بالأحمر: الحكومة تبحث زيادة الحد الأدنى للأجور بعد ”انتفاضة عيد الشرطة”، مانشيت ثانٍ بالأسود: حصاد ثلاثاء الغضب: شهداء وجرحى ومعتقلون. وآمال في التغيير، وتحت الصورة الرئيسة للمظاهرات: دولة ”ميدان التحرير”. قصة 12 ساعة من الغضب في أشهر ميادين مصر.

جذبتني أخبار التلفزيون التي تتحدث عن اهتمام كثيف بما يحدث في مصر من قبل الإدارة الأمريكية، في حين لا خبر عن الإدارة المصرية. وداخل صحيفة الشروق أخذت أقرأ باهتمام، فيما كنت آكل بنهم رغم حذري كمريض سكري وضغط دم: مقالات عدة عن الأعراض التونسية. العدوى والمناعة وتداعيات تونس وصفحات عدة عن الرياضة، ولا مقالة عما يحدث في مصر.

ومما شاهدته في الساعات الأولى من وجودي بمصر أن المتظاهرين تحت الثلاثين، كما لاحظت الكل يحمل موبايل ويلبس ملابس حسب الموضة ولم أر الرغيف شعارًا.

الشارع نائم والفندق ميت، وكنت حبيس غرفتي. فالقاهرة نامت مبكرًا، لكن لم تترك عادتها في الصحو متأخرة خاصة يوم الجمعة، لذا لذت بالتململ في الفراش، لكن لفت انتباهي إرجاع المتحدثين في محطات التلفزيون، ما حدث في تونس وما يحدث الساعة في مصر؛ إلى ثورة الإنترنت. لم أستسغ الفكرة فتونس التي كنت أتردد عليها خلال السنوات الأخيرة مرات في السنة الواحدة الإنترنت فيها محدود، وخبراء الاتصالات يتحدثون عن أن الإنترنت في المنطقة العربية جملة محدود الانتشار تقنيًا واجتماعيًا، وخاصة سياسيًا لأن الدولة تمارس عليه رقابة صارمة وحتى تمنعه. لكن في حوار داخلي تداعت ذاكرتي بما عاصرت من ثورات وعلاقتها بالتقنية في العصر الحديث: الثورة الإيرانية عرفت بثورة الفاكس، كما عرفت الانتفاضة الفلسطينية الأولى بانتفاضة الفاكس…. قلت لنفسي نعم الثورة التقنية، وخاصة في الاتصالات أحدثت نقلة نوعية، وكنت شاهدت في تونس فاعلية الشباب، الذين هم الشعب حيث الشعوب العربية ما يقارب 2/ 3 من الشباب تحت الثلاثين، ومما شاهدته في الساعات الأولى من وجودي بمصر أن المتظاهرين تحت الثلاثين، كما لاحظت الكل يحمل موبايل ويلبس ملابس حسب الموضة ولم أر الرغيف شعارًا.

توكدت أن أبناء الطبقة الوسطى هم وقود ما يحدث الآن في مصر، وأظهرت لي الأيام هذه الملاحظة فلم يكن وقود الثورة من أبناء العشوائيات الذين كانوا منشغلين بلقمة العيش، وشل تفكيرهم– في أمرهم– ما يعانون من جوع وفاقة، أما الذين رأيت فيما بعد في المظاهرات فهم حاملو الشهادات الجامعية والعليا ممن يعانون من البطالة، يعانون من انعدام أمنهم لا من جوعهم. هذا ما تفتق في ذهني من خلال المشاهدة الأولى وما تبين لي فيما بعد من خرافة موت الطبقة الوسطى أو اضمحلالها.

حين جاء الصبح؛ صبح القاهرة المتأخر كالعادة، خرجت إلى الشارع. كانت الساعة التاسعة.

كنت وطدت النفس على أن أبحث عن شقة للسكن ما تيسر لي من أيام؛ الشقة أقل سعرًا، توفّر الراحة وتقلل المصاريف حيث يمكن فيها أن أطبخ ما أستطيع وآكل ما يحلو لي.

مررت بالشوارع النائمة التي كأنها في يوم الجمعة الحزين تنتظر الصلاة على شهدائها، مررت بمقر قيادة الحرس الجمهوري، شرطة الحرس الجمهوري، شارع يغص بالمعسكرات ويضيق عن حركة الراجل لكن يشوبه السكون المريب في نفسي، بحث عن مقهى، كل المحلات مغلقة، اضطررت أن أدق على بعض البوابين غرف إقامتهم لإيقاظهم كي أحصل على شقة.

أول حديث لي عما يحدث في القاهرة كان مع البواب الذي ذكر لي صعوبة الحصول على شقة، معللاً الأمر بكثرة من جاء لغرض السكن قرب المعرض الذي سيفتح غدًا السبت. قلت: ولكن المعرض سيؤجّل، فاجأته بيقيني معتبرًا قولي فألاً سيئًا في هذا الصباح، قال: ليه يا عم كلها شوية دوشة وتمشي. ثم تملص من الحديث معي وحاول ألا ينصت لكلامي، وهذا البواب في الأيام التالية أخذ يصر على الحديث معي بعد أن أُجّل المعرض وصدق تخميني، لقد كان يهوى التحليل السياسي ويتابع الأخبار باعتبار أنه يجلس في مدخل العمارة ليس من تسلية له غير متابعة الأخبار والاستماع لمحلليها، وأضف لذلك فقد كان في الأيام التالية يعاني من مشكل اختلال الأمن ومن تغيب زملائه عن العمل، وقد ذكر لي أنهم تحججوا بعدم المقدرة على الوصول إلى عملهم بعد إعلان منع التجول وإرباك المواصلات.

لقد خرجت القاهرة عن بكرتها. اندلعت الشوارع بالناس، البواب الذي كان برفقتي في الصباح أصيب بالبكم، لم يكن ثمة أحد يتحدث

كنت أتجول مع البواب بين العمارات بحثًا عن شقة مناسبة ولم يكن ثمة أحد في الشوارع، الجميع تمترسوا في بيوتهم أو في الجوامع يؤدون الصلاة. ولم يكن أحد يتوقع أن هذه الجمعة ستكون جمعة الغضب. لقد خرجت القاهرة عن بكرتها. اندلعت الشوارع بالناس، البواب الذي كان برفقتي في الصباح أصيب بالبكم، لم يكن ثمة أحد يتحدث، لا تسمع إلا الهتافات بسقوط النظام وفي غير ذلك خرس الناس، ومن شارع صلاح سالم تتدفق الناس كافة ومن كل الشوارع تقصد مسجدها الجديد ميدان التحرير.

كنت مأخوذًا بما يحدث. لم أشارك الناس في التيمم بالميدان. لكن كنت أجول في الشوارع مرافقًا عن بعد ما يحدث، ورغبة في الحديث مأسورًا بما يحدث.

من الرابعة من فجر الجمعة حتى الرابعة من بعد ظهرها ولدت القاهرة التي لم أعرف حتى في الكتب والأفلام التي شاهدت عنها، ولا في حديث أحد، ولا حتى في أحلام شعرائها وقد عرفت منهم الكثير وقرأت أشعارهم. كنت ألف الشوارع وقد قطعت كل الاتصالات، متحسرًا على أني في القاهرة وحيد، لأول مرة آتيها وقد غادرها صديقي الشاعر محمد عفيفي مطر: لماذا لم تنتظر قليلاً.

مرة من أعوام سابقة، كنت أقطع الشارع من باب المعرض إلى محطة الأتوبيس رفقة محمود أمين العالم ووجدنا محمد عفيفي مطر ينتظر في المحطة، تذكرت ذلك وكنت ساعتها واقفًا عند المحطة الخالية من الناس والأتوبيسات، لكن الشارع مزدحم بالناس في حالة كان العالم ومطر يحبان أن يريا فيها الناس، بل عملا من أجل هذه اللحظة.

لماذا لم تنتظرا قليلاً؟ .

بين صبح جمعة الغضب تلك ومسائها زمان، فإذا كنت قد نمت تلكم الليلة في القاهرة، فإني لم أنم بعدها…

لم أرغب.. ولم أستطع.