Atwasat

الحُمْقُ والجنونُ

عمر أبو القاسم الككلي السبت 24 يناير 2015, 12:14 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

في كتابه"أخبار الحمقى والمغفلين" يورد ابن الجوزي(1: 6)* إشارةً إلى أمير طار منه طائر"فأمر أن يُغلق باب المدينة".

سنعود إلى أمر هذه الطرفة لاحقا. لكننا نريد أن نمضيَ الآن إلى موضوع ذي صلة، وهو موضوع الجنون.

فالجنون قديم، ومن المرجح أنه ظهر مع بداية تكون المجتمعات البشرية المنظمة وما نتج عنها من تقسيم للعمل أدى إلى انقسامات طبقية وتعقدٍ في الحياة وزيادة المصاعب والمعاناة الحياتية التي أخذت ترهق البعض. فقد كشفت حفريات عن جماجم، يعود تاريخها إلى خمسة آلاف سنة، على الأقل، قبل الميلاد وجدت بها ثقوب دائرية تم إحداثها بأدوات صُوَّانية(2: 10). ويعتقد أن هذا الفعل ناشيء عن أن أصحابها اعتبرهم مجتمعهم والسلطة القائمة فيه، لسبب أو لآخر، وعن حق أو عن باطل، أشخاصا مجانينَ. ذلك أنه كان يُعتقد أن الشياطين قد استوطنت أدمغتهم، فأُحدِثت هذه الثقوب لإتاحة الفرصة لها للخروج(2: 10). ورغم تقدم العلم فمازال هناك بيننا اليوم من يعتقد أن الجنون ناتج عن قوى فوق دنيوية. وفي العصر الحديث أصبح يُنظر إلى الجنون على أنه مرض طبيعي، أو عقلي mental illness وأصبح من اختصاص المعالجين النفسانيين. إلا أن هناك، من ذوي الاختصاص، مثل الدكتور توماس ساس Thomas Szasz ، أستاذِ الطب النفسي بجامعة سيراكوز بنيو يورك، من يعترض على هذا ويرى أن ما يسمى المرض العقلي"ليس واقعة متعلقة بالطبيعة، وإنما هو خرافة من صنع الإنسان. فـ(المرض العقلي) و(اللاوعي) ما هما إلا مجازان مضللان"(2: 2). ويقول ميشيل فوكو"لوكُتب تاريخ الجنون على نحو سليم فإنه سيكون سردا، ليس لتاريخ المرض وعلاجه، وإنما لقضايا الحرية والمراقبة، المعرفة والسلطة"(2: 3).

ليس من شأننا هنا تقديم دراسة عن طبيعة الجنون وما يتعلق به من جدالات، لكننا نميل إلى القول بأن الجنون حالةُ لاتوازنٍ نفسي وعقلي تصيب الإنسان نتيجة وجوده في مجتمع، وليس نتيجة وجوده في الطبيعة.

وما جعلنا نتطرق إلى هذا الموضوع، هو الظاهرة التي صارت تتزايد منذ عقود المتمثلة في وجود أناس، من مختلف الأعمار، في الشارع يبدو عليهم، من خلال ما يتلفظون به من أقوال وما يأتونه من أفعال، أنهم على هذا القدر أو ذاك من اختلال التوازن النفسي والعقلي. إن تزايد هذه الحالات في مجتمع معين وفي فترة تاريخية محددة، وربما بين مستويات اجتماعية محددة أيضا، لابد وأن يكون من مسؤولية عوامل جديدة طرأت على حركة هذا المجتمع في فترة زمنية معينة. ونعتقد أن ما اختلقه النظام السياسي القمعي الذي كان متسلطا على حياة المجتمع الليبي، لمدة تُنيف عن الأربعين سنة، من ظروف صعبة مست الحياة اليومية للناس، يُعد المسببَ الأكبر في تفاقم هذه الظاهرة.

كشفت حفريات عن جماجم، يعود تاريخها إلى خمسة آلاف سنة، على الأقل، قبل الميلاد وجدت بها ثقوب دائرية تم إحداثها بأدوات صُوَّانية

في السنوات الأربع الأخيرة ازدادت هذه الظاهرة حدة، ومن المرجح أن تزداد خلال السنوات القادمة.

لكن الملاحظة المثيرة للتساؤل هي كون، تقريبا، جميع الأشخاص من هذا النوع الذين نصادفهم هم رجال!

فهل يعود هذا إلى كون النساء أكثرَ صمودا في مواجهة الظروف الصعبة؟ أم إلى كونهن أقلَّ اضطلاعا بالمسؤوليات من الرجال؟ أم إلى أنهن واقعاتٌ تحت سيطرة أسرهن التي تحول دون من تصاب منهن بهذا النوع من اختلال التوازن والخروج إلى الشارع؟

نعود الآن إلى حكاية الأمير الساعي خلف طائره التي أوردها ابن الجوزي.
في كتابه المشار إليه يفرق(1: 6) ابن الجوزي بين الحمق والجنون. فيعرف الحمق والتغفيل بأنه"الغلط فى الوسيلة والطريق الى المطلوب، مع صحة المقصود" أما الجنون فيعرفه بأنه"عبارة عن الخلل فى الوسيلة والمقصود جميعا". فالأمير، في المثال المشار إليه، أحمقُ، وليس مجنونا، لأن مقصوده"حفظ الطائر"، لكن حمقه جعله يخطيء الوسيلة.

والسؤال الآن: هل"أمراء الحرب" الذين يحدثون الخراب والمآسي في بلادنا، من قتل وسجن وترويع وتشريد وتدمير للثروات والمقدرات والإمكانيات وسد آفاق المستقبل أمام شبابنا وأطفالنا، حمقى يطاردون طائرا"أفلت" منهم، إلا أنهم لم يتوصلوا، بسبب حمقهم، إلى الوسيلة الملائمة لذلك؟ أم هم مجانينُ، غاب عقلهم تماما، يطاردون"سرابا" بأكثر الوسائل عبثية وتدميرا؟

المراجع:
(1) أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي. أخبار الحمقى والمغفلين. دون تحقيق ودون ناشر ودون تاريخ.
(*) يشير الرقم الأول إلى رقم المرجع في قائمة المراجع ويشير الرقم الثاني إلى رقم الصفحة مصدر الاقتباس.
(2) Roy Porter. Madness. A Brief History. Oxford University Press. 2002. New York