Atwasat

العقرب وشرعية السلاح

سالم العوكلي الثلاثاء 16 ديسمبر 2014, 11:39 صباحا
سالم العوكلي

يزداد في هذه الفترة اهتمام العديد من الشباب بكتابات الصادق النيهوم، حيث اتصل بى البعض يسأل عن كتبه، أو يتساءل بشأنه، كما لفت نظري لهذه الظاهرة الصديق الروائي محمد الأصفر في مجموعة أسئلة بعثها لي. وهي ظاهرة تطرح سؤالا مهما: لماذا النيهوم؟ وفي هذه الفترة بالذات؟.

لست هنا بصدد محاولة الإجابة عن هذا السؤال، لكن ما نعرفه أن النيهوم توجه، منذ كتاباته المبكرة، إلى رصد بنى التخلف في المجتمع الليبي، ومرتكزات العقل الأبوي المهيمن الذي يمثل حاضنة نشطة لولادة الطغيان ونموه على جميع الأصعدة، منطلقا من تعريفه الجوهري للجهل بكونه لا يعني عدم المعرفة، بل المعرفة الخاطئة والإصرار عليها والعناد بشأنها.

في كتابه (القرود) يسرد النيهوم واقعة صراع على النفوذ بين مجموعة من القرود في الغابة، وعندما يدفع أحدها قردا آخر يسقط على ظهره، وينهض رافعا يده التي علقت بها عقرب، فتخاف القرود وتتراجع، ليدرك لحظتها أن بيده سلاح قاتل، سيهبه فيما بعد السلطة الحاكمة، والطاعة من قبل جماعة القرود الأخرى.

في هكذا مجتمعات، لم تُرسِ على مدى تاريخها أنواعا أخرى من السلطات المدنية الناعمة، يصبح السلاح الشرعية الوحيدة للحكم والتحكم في الآخرين، وهو جوهر الصراع الذي عاشته المنطقة عقودا طويلة، في تاريخنا السياسي الحديث، عبر الانقلابات العسكرية المتتالية، التي يمكن اختزالها في كون من يسيطر على السلاح هو الذي سيحكم. بالتالي استمرت المؤسسة العسكرية الأداة التي يتم عبرها الوصول إلى السلطة، مع تسليم من الشعوب بشرعية هذه السلطة المنبثقة من احتكار القوة.

فَهِمَ آخر الانقلابيين هذه الآلية فاستفادوا من التجارب السابقة، وعملوا على مبدأ تهشيم السلم الذي أوصلهم إلى السلطة، عبر إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، واحتكار السلاح، وتحويله من دوره في حماية الوطن إلى مهمة حماية النظام وكرسي السلطة. وبهذا الاحتكار استطاعت هذه الأنظمة المتأخرة أن تستمر لفترة طويلة، حتى نزعت منها القوى الدولية السلاح الذي يمثل شرعيتها الوحيدة في الحكم (صدام، القذافي، والأسد في الطريق) أمثلة.
أدرك القذافي منذ البداية أن المؤسسة العسكرية التي جاء عن طريقها إلى السلطة، من الممكن أن تنقلب عليه في أية لحظة، فعمل جاهداً، خصوصاً بعد محاولة انقلاب 1975، على ضرب هذه المؤسسة، وتفريغ محتواها في هيكلية جديدة عنقودية، لا تخضع إلا لسلطانه هو (الكتائب).

في كتابه (القرود) يسرد النيهوم واقعة صراع على النفوذ بين مجموعة من القرود في الغابة، وعندما يدفع أحدها قردًا آخر يسقط على ظهره، وينهض رافعًا يده التي علقت بها عقرب

بدأ مشروعه الترويضي لهذه المؤسسة بإقالة الضباط الكبار وإحالتهم إلى الخدمة المدنية أو التقاعد المبكر، ثم دخل بما تبقى من الجيش في مغامرات عسكرية في إفريقيا، لا هدف لها سوى إنهاك الجيش والقضاء على نخبته. ثم طرح في أيديولوجيته الجديدة مفهوما عائما للشعب المسلح كبديل للجيش الرسمي.

وفي هذه الأثناء كانت تنمو أجساد عسكرية بديلة متمثلة في الألوية والكتائب الخاصة به، والتي تتشكل بحذر عبر معايير قبلية وولائية يثق فيها، وتقلد إمرتها أشخاص مقربون جدا وغير ذوي تطلعات سلطوية، إلى أن كبر أبناؤه ليتولوا المهمة وتسمى هذه الألوية بأسمائهم (هذا ما فعله بالضبط تنظيم الأخوان عبر تأسيسهم للدروع والكتائب التي بعضها يسمى بأشخاص يثقون فيهم).

تحولت المؤسسة العسكرية في ليبيا إلى إقطاعية أسرية، تتمتع بكل الامتيازات، من النفوذ والمرتبات العالية والأسلحة المتطورة، وظل الجيش القديم هيكلا متداعيا، خالية معسكراته من السلاح، ويتقاضى ضباطه وجنوده أدنى الرواتب، ولا دور لهم سوى جمع جنود التدريب الإلزامي وإحصائهم يوميا دون أن يتلقوا تدريبا حقيقيا، ودون أن يستخدموا الذخيرة (هؤلاء الضباط والجنود هم من التحقوا بانتفاضة فبراير منذ بدايتها).

حين صدر القرار الدولي بحظر الطيران في ليبيا وحماية المدنيين، وقرر حلف الناتو تدمير الدفاعات الجوية والرادارات، لم يجد غطاء جويا إلا في المنطقة الغربية إلى حدود سرت وحتى الجنوب الغربي، وهي المنطقة التي كان يتحرك فيها القذافي مرارا، ليؤسس منظومة دفاع جوي لا عمل لها سوى حماية مواكبه المراوغة، واستطاع القذافي أن يمسك العقرب بيده ويرفعها في وجه الشعب ليحكم أربعة عقود بشرعية السلاح، حتى تدخل المجتمع الدولي في انتفاضة فبراير وجرده من هذه العقرب، جرده من الشرعية.

بعد سقوط النظام في أكتوبر 2011 ، بدأ الصراع من الورثة، مبكرا، حول ما تبقى من هذا الميراث، الذي سيعطي الشرعية لمن يستولي عليه، أو على أكبر قدر منه، وهم يدركون أنه الشرعية الوحيدة في دولة ليس لها تاريخ من السلطات المدنية، أو الديمقراطية، أو أية بدائل أخرى لشرعية القوة، وكانت الانتخابات والتعديلات الدستورية تجري، والأحزاب تتشكل، والتشريعات الجديدة تصدر، لكن من يعرفون اللعبة جيدا يعرفون أن كل هذا مجرد ديكور جميل لإيهام الخارج والداخل بأن ليبيا مختلفة، وأهداف الانتفاضة تتحقق. والجمهور الحالم لاهٍ في رومانسيته الثورية، بينما خلف الكواليس تنمو الكتائب والميليشيات، بما غنمت من أسلحة، وبما جاءتها من أسلحة وذخائر من قوى خارجية، وبما سرقت من أموال الليبيين، لتتصارع من أجل امتلاك الشرعية التي تجعلها تحكم فعلا، وحتى الأحزاب كانت في جوهرها ميليشيات سرية ومعلنة، تعرف جيدا أن الصندوق مجرد نزهة ديمقراطية من أجل أن تصل هذه الميليشيات إلى السلطة التشريعية، وتسن قوانين تحمي جرائمها أمام العالم.

وما أشبه هذه الديمقراطية بديمقراطية القذافي التي تغنى بها عقودا في بلد كان في الواقع تحكمه الميليشيات والثوار(اللجان الثورية).

ومن هذا المنطلق كنت دائما أعتبر انتفاضة فبراير انقلابا عسكريا على النظام السابق، ولا تعريف للانقلاب سوى كون مجموعة تستولي على السلاح والمعسكرات والتلفزيون والشارع، وتحل محل النظام السابق، غير أن الأنكى من ذلك كونُ البديل ميليشيات فوضوية لا تملك الحد الأدنى من الانضباط أو التراتبية، ولا تصلح حتى لأن تكون نظاما دكتاتوريا، لأنها تحولت إلى مجموعة كبيرة من العصابات، وكل عصابة على رأسها رئيس يرفع العقرب في وجه الناس. وبدل العقرب الوحيدة كثرت العقارب، ما تسبب في النهاية في حرب أهلية، لا نرى للبلد أفقا من خلال دخانها.

الفاشية الأصلية؛ شرعيتها الوحيدة السلاح، وهتافها: عاش الموت، وأغنيتها المفضلة: الشعب، ولغتها سطحية وركيكة

وهي عقارب لا تهدد حياة المواطن واستقراره فقط، ولكن تهدد بتقسيم ليبيا التي وحدَّها النظام الملكي، وحافظ على وحدتها نظام القذافي العسكري. وهو ثمن طالما دفعته المجتمعات التي عاشت تحت أنظمة شمولية، لا تملك مؤسسة عسكرية مستقلة ووطنية، يمكنها ضبط الفوضى التي تحدث إبان المراحل الانتقالية الكبرى.

حدث هذا في تونس ومصر،بسبب تماسك المؤسسات الأمنية والعسكرية فيهما، الذي يرجع إلى طبيعة الأنظمة التي كانت تحكمها، حيث حرصت على الاحتفاظ بالحراك المدني حتى وإن كان في حدوده الدنيا، من أحزاب ومنظمات مدنية، كما حرصت على أن تستمر في السلطة بشرعية الانتخابات، حتى وإن كانت مزورة، أو بتعديلات دستورية، لكنها في الواقع أرست مبدأ شرعيات أخرى غير شرعية السلاح.

هنا يكمن الاختلاف، إضافة إلى العمق الحضاري لهاتين الدولتين، وطبيعة نضالها السياسي ضد الاستعمار، بينما في ليبيا، حتى في الحقبة الاستعمارية، بلينا بفاشية متخلفة زرعت بذور الفاشية الأصلية في هذه الأرض الخصبة، والتي مازالت كل مرة تنمو وتظهر أكثر قوة، مثل جذور أشجار البطوم، التي نعتقد أننا اجتثثناها.

الفاشية الأصلية؛ شرعيتها الوحيدة السلاح، وهتافها: عاش الموت، وأغنيتها المفضلة: الشعب، ولغتها سطحية وركيكة، ومحاكمها تتداول مع مصطلحات لغوية باعتبارها تُهَما، حصانتها تسمية(الثوار)، وذريعة جرائمها حماية الثورة.

وكل ما نراه الآن في ليبيا هو جوهر الفاشية الأصلية على الأرض التي سماها هيريدوت صندوق الرمال، وعلى الشاطيء الذي سمته إيطاليا الفاشية شاطئها الرابع .