Atwasat

هل لدينا عقل سياسي أم مخيال سياسي؟

محمد الجويلي الثلاثاء 16 ديسمبر 2014, 11:31 صباحا
محمد الجويلي

إنّ إحدى المهام المطروحة أمام الفكر العربي المعاصر تتمثّل في التوسيع من دائرة اشتغاله. لقد ظل هذا الفكر لسنوات طويلة يجترّ نفسه على نحو طقوسي، فيعيد إنتاج الماضي بقوالبه المكرورة دون أن يتمكن فعلا من إعادة إنتاجه، اللّهم على مستوى الحلم، أو يهرب إلى الأمام ذليلا مطاردا من تحدّيات الراهن التاريخي الذي يصرّ على ملاحقته واستفزازه، أو يعلق في شرك الحاضر دون أن يتمكّن من قطع عُقد حبائله لاستشراف أفق الحرّية من الخلف والأمام. والنتيجة هي أنّنا في كلّ الحالات قد خسرنا الماضي لأنّنا تجنّينا عليه وحمّلناه ما لا يتحمّله وخسرنا الحاضر لأنّنا عاجزون عن مواجهته بأساليب العصر وقد نخسر المستقبل لأنّنا فقدنا الوعي الموضوعي العقلاني بالزمن التاريخي، فبدونا وكأنّنا نعيش خارجين عن أبعاده المعقولة، وهذا ما لا يمكننا من أن ننخرط في بناء الحاضر الإنساني الذي يظلّ بدوره يرفضنا ويهمّشنا تارة بقوّة العقل، وطورا بقوّة الحديد والنار.

وقد يكون من البديهي القول أنّ أوّل حجر ينبغي وضعه في إعادة بناء ذاتنا التاريخيّة هو التفريق بين أحلامنا الرديئة وأحلامنا الجميلة، بل قل التفريق بين أحلامنا المزعجة المخصية وأحلامنا المخصبة أي نصطدم بمخيالنا التاريخي، فلعلّه يقف اليوم نتيجة لمواصفات العصر وراء انتكاساتنا قبل أن نحمّلها لغيرنا. فالغير ما كان له أن ينكسنا لو لم نكن مهيّئين لذلك. لقد تتالت في العقود الأخيرة الكتابات المنشغلة بالعقل العربي كما يبدو من عناوينها ذاتها مثل «اغتيال العقل» لبرهان غليون ومؤلّفات محمد عابد الجابري: «العقل السياسي العربي» و«بنية العقل العربي» وغيرها من الكتب، ولكن قلّما وقع الاهتمام بـ«المخيال العربي» أو المخيال السياسي العربي أو الإسلامي، فهذا ما لم يُفكّر فيه بالعناية اللازمة حتّى أنّه يمكن أن نتساءل إلى أي حدّ يمكننا أن نتحدّث عن عقل عربيّ أصلا حتّى يتسنّى لنا الحديث عن اغتياله والبحث في آليات اشتغاله؟ أم أنّ العقلانية ذاتها تتطلّب أن نتحدّث عن المخيال العربي الإسلامي عوض أن نتكلّم عن العقل العربي الإسلامي.

إنّ أحد مظاهر التخيّل الأيديولوجي واليوطوبي الأكثر مفارقة مع نواميس العقل هي التي تتجلَّى في علاقتنا بزعمائنا في العقود الأخيرة من الزمن التي تلت مباشرة حركة التحرّر من الاستعمار المباشر

ثمّ بعد ذلك قد تتيح لنا المشروعيّة المعرفيّة أن نبحث في مواصفات العقل؟ هل لنا عقل سياسي أم مخيال سياسي؟ هذه الأسئلة تطرح بحدّة أمام المثقفين والمفكرين العرب اليوم خاصة في هذه المرحلة التي تختلط فيها أحلام الديمقراطيّة الأكثر تلوّنا بروح العصر وتأثّرا بأعاصير العولمة وتيّار ما بعد الحداثة الجارف بأكثر الأفكار والايديولوجيات انغلاقا ومفارقة للإنسان والتاريخ، وهي دون شكّ أسئلة خطيرة لأنّ الإجابة عنها بقدر ما هي مستعصية على الفرد الواحد، إنْ لم نقل على الجيل الواحد، وتتطلّب جهودا فكرية مضنية، فإنّ مصير الفكر العربي ومستقبل الجماعة العربيّة والإسلاميّة يتوقّف عليها.

إنّ أحد مظاهر التخيّل الأيديولوجي واليوطوبي الأكثر مفارقة مع نواميس العقل هي التي تتجلَّى في علاقتنا بزعمائنا في العقود الأخيرة من الزمن التي تلت مباشرة حركة التحرّر من الاستعمار المباشر.

فكثيرًا ما حلمنا ومازلنا كذلك -حتّى وإنْ كنا نعيش اليوم في عصر تضيق فيه دائرة الحلم شيئا فشيئا لصالح العلم*- بالزعيم المنقذ من الضلال و«المهدي المنتظر» الذي بواسطته نستطيع أن ندخل العصر ونحرز التقدّم ونحقق الحرّية. ولكن ماذا فعلنا حتّى نستطيع أن نخلق فعلا مثل هذا الزعيم؟ أ ليس غيابه إنْ غاب يعود إلينا قبل أن يعود إليه؟ فالشعوب هي التي تصنع زعماءها وليس الزعماء هم الذين يصنعون شعوبهم.

كذلك ماذا فعلنا حتّى نطالب زعيمنا بألّا يكون استبداديًّا وأن يكون عادلاً ومتطابقًا مع روح العصر ونحن نبحث فيه عن صورة الأب الحنون القويّ الذي نتماهى فيه لسلطته علينا، ونتلذّذ مازوشيّا بردعه لنا لأنّ ذلك الردع هو الذي يخلق منه صورة الأب الحقيقي في مخيّلتنا. إلى متى سنظلّ متعلّقين بالسلطة العطوفة الحنونة، هذا الحنين الذي مازال يجثم على وجداننا السياسي رغم كلّ نداءات عقلنة العلاقة بين الحكّام والمحكومين التي يطلقها من حين إلى آخر بعض المثقفين والتي لا شيء يوحي، رغم الزلزال الرهيب الذي حدث في بعض البلدان العربيّة في السنوات الأخيرة، بعكس ذلك. بل يوحى بأتعس ممّا عشناه بكثير، مادام جزء لا يُستهان به من جماهيرنا يرغب في تنصيب زعيم علينا في جبّة خلفاء العصور البائدة وسلاطينها؟

لقد ظلّت الأمّة العربيّة الإسلاميّة إلى حدود كتابة هذه السطور ومنذ زمن طويل تعيش حالة من اليتم الجماعي متجسّدة في غياب الزعيم الواحد الأوحد الكاريزماتي الذي يلمّ الشمل ويوحّد الصفوف. ولقد زاد الإحساس بهذا اليتم والاضطهاد في هذا العصر الذي يمتدّ من سقوط معظم العالم العربي تحت نير الاستعمار إلى يومنا هذا بحيث لم يكف التحرّر منه وبناء دول ضعيفة برئاسات معظمها انتهازيّة واستبداديّة ولا مشروع حقيقيا لديها للبناء للتخفيف من حدّة هذا الإحساس بالضيم وعدم وجود ربّ للبيت يحميه.

تبحث الجماعة العربيّة بحثا طفوليّا دؤوبا عن الزعيم الأب، ممّا يبعث على الاعتقاد بأنّنا لم نتخطّ بعد مرحلة طفولتنا السياسيّة

وحين يغيب ربّ البيت تصبح العائلة مهدّدة بالتشتّت والانحلال وتفقد الإحساس بالأمن والطمأنينة لفقدان حاميها. وبمجردّ أن يُخيّل للجماعة قيام زعيم يحمل مواصفات الأب الحقيقي، ليعيد إليها الإحساس بالأمن والحماية ملوّحا بممارسة سلطته العطوفة الحنونة عليها حتّى تتشبّث «الجماهير» على نحو طفولي بتلابيبه تماما كما يتشبّث الطفل بتلابيب أبيه وإذا ما اغتيل هذا الأب رمزيّا أو واقعيّا تنكفئ الجماعة على ذاتها تبكيه وترثيه وتظلّ تنتظره يوما حتّى يعود ليغمرها بعطفه من جديد.

وهكذا تبحث الجماعة العربيّة بحثا طفوليّا دؤوبا عن الزعيم الأب، ممّا يبعث على الاعتقاد بأنّنا لم نتخطّ بعد مرحلة طفولتنا السياسيّة، طفولة امتدّت حوالي الأربعة عشر قرنا. مازالت صورة الزعيم الأب تستهوينا، لأنّ ماضينا يسيطر بكلّ ثقله على حاضرنا ويحرّكه ومخيالنا المعاصر في آليات اشتغاله ليس إلّا امتدادا واجترارا للمخيال العربي الإسلامي في القرون الوسطى. ليس مستغربا اليوم إذن أن يعلن الكثير منّا حنينهم أكثر من أيّ وقت مضى في تاريخنا المعاصر إلى نموذج الخليفة العثماني والسلطان المملوكي أو السلجوقي ومشتقّاتهم ..... هذا يعود إلى تعطّل آلة العقل لدينا منذ زمان وانفلات آلة التخيّل التي تنتج أكثر الكوابيس إزعاجًا.

* تعبير شعبي شائع في بعض المناطق المغاربية تستخدم فيه مفردة «عِلْمْ» بمعنى: يقظة.(المحرر).