Atwasat

ترحال:الراعي والرعيّة وثنائيّة العصا والمزمار

محمد الجويلي السبت 22 نوفمبر 2014, 12:31 مساء
محمد الجويلي

إذا تأمّلنا في التاريخ البشري بصفة عامة والتاريخ العربي الإسلامي على وجه الخصوص، للاحظنا أنّ من أهمّ ما يميّز تمثّل السلطة السياسيّة هي تلك المماثلة التي عقدها المخيال البشري بين علاقة الحاكم والمحكوم، من جهة، وعلاقة الراعي بقطيعه، من جهة أخرى. لقد اشتغل التخيّل العربي الإسلامي للسلطة طويلا مستعيرا صورة الراعي وهو يقود غنمه حتّى أنّ كلمتي الراعي والرعيّة، وإنْ حملت كلّ واحدة منهما دالا واحدا، فقد اكتسبتا في الاستعمال مدلولين: راعي الماشية "بقر-أغنام وأنعام ..." والحاكم سواء حكم بأمر اللّه كما يدّعي أو بدون أمره، أمّا مدلول الرعيّة فهما القطيع من الحيوان عموما والمحكومون، سواء أطلقت عليهم تسمية أمّة أو شعب أوتسمية أخرى.

فالمدلول السياسي لكلمتي الراعي والرعيّة ليس في الحقيقة إلّا مدلولا ثانويّا حافّا يحيط بالمدلول المباشر الرئيس وهو راعي الغنم وقطيعه وقعت استعارته في الحقل السياسي للدلالة على الحكّام والمحكومين. وفي الحقيقة تعود هذه الاستعارة الرعويّة التي وجدت في الحقل العربي الإسلامي تربة صالحة للترعرع والنموّ، كما لربّما لم تجده في تربة أخرى، إلى الحضارات والديانات القديمة. فكان الفرعون المصري يُعتبر راعيا ويوم تتويجه كان يتلقّى بالفعل عصا الراعي في احتفالية عامة تُقام بالمناسبة، ومثله ملك بابل الذي كان يُلقّب براعي البشر من جملة ألقاب أخرى. كما أنّ اليونانيين أنفسهم الذين أسّسوا حضارة المدينة يربطون ربطا وثيقا بين القانون والرعي: فكلمة قانون عندهم هي (nomos) والراعي (nomeus )، ما يدلّ على أنّ الراعي هو الذي يطبق القانون المتعاقد عليه لتنظيم المدينة إذا لم يكن كذلك مشرّعه.

السلطة الرعويّة سرعان ما لبست لبوس الديانات التوحيديّة بمجرّد نشأتها

غير أنّ هذه السلطة الرعويّة سرعان ما لبست لبوس الديانات التوحيديّة بمجرّد نشأتها، وثمّة ترتيلة مصريّة تبتهل إلى اللّه كما يلي"أيّها الربّ الذي يسهر حين ينام جميع الناس، أنت الذي تفتّش عمّا هو خير لماشيتك..." قبل أن ينشر العبرانيون هذه الاستعارة الرعوية على نحو واسع لكونهم اعتبروا أنّ اللّه وحده هو راعي شعبه ولا يُوجد غير استثناء واحد يخصّ الملك داوود الذي كان يُبتهل إليه باسم الراعي"ذلك أنّ اللّه أوكل إليه –على حدّ اعتقادهم- تجميع أحد القطعان السائبة" ولا غرابة حينئذ أن يستعير الإنجيل بعد ذلك صورة الراعي لعيسى بن مريم فيصفه في اليوم الآخر على هذا النحو"عندما يأتي المسيح في مجده مُحاطا بالملائكة... وأمامه ستجتمع كلّ الأمم فيفرق الناس عن بعضهم البعض تماما كما يفرق الراعي الشياه عن الكباش، فيضع الكباش على يمينه والشياه على يساره".

أمّا في النصوص العربيّة والإسلاميّة، فالمادة الرعويّة في الحقل السياسي هي من الثراء والتنّوع، بما لا يمكن الإلمام بها في مؤلّف واحد، فما بالك بتحليلها وتفكيكها في مقال واحد يتيم. نسوق هنا بعض الأمثلة، لا لمجرّد ترف فكري نتتّبع فيه السلطة الرعوية في ثقافتنا كما يمكن أن يعتقد البعض، وإنّما لنبيّن أنّ الديمقراطيّة التي يبشّر بها المثقفون والسياسيون ليست حرّية تعبير وانتخابات وصناديق اقتراع، وإنّما هي، قبل كلّ شيء، استعداد ذهني ونفسي كثيرا ما يصطدم بعوائق ثقافيّة تتعلّق بتمثّل الناس للسلطة السياسية الموروث والمترسّب الرّاسخ في عقولهم ونفوسهم منذ قرون وما اعتبارهم لحكّامهم رعاة ولأنفسهم رعيّة إلّا المظهر الأساس لهذا التمثّل وإنْ تدثّر بلبوس العصر: الديمقراطيّة وحقوق الإنسان.

في كتاب السياسة الشرعيّة في إصلاح الراعي والرعيّة يسوق ابن تيميّة قولا لأبي مسلم الخراساني يخاطب فيه معاوية بن أبي سفيان"أنت أجير. استأجرك ربّ هذا الغنم لرعايتها، فإن أنت هنأت جرباها، وداويت مرضاها، وحبست أولاها على أخراها وفاك سيّدك أجرك، وإنْ أنت لم تهنأ جرباها، ولم تداو مرضاها، ولم تحبس أولاها على أخراها عاقبك سيّدها". نجد ما يردّده ابن تيميّة كذلك في نفس الكتاب في قوله"ذلك أنّ الوالي راع على الناس بمنزلة راعي الغنم" بحذافيره في كتب الشيعة الذين يقف، هو السنّي الحنبلي، على طرف نقيض منهم. نقرأ في كتاب إثبات الإمامة للنيسابوري ما يلي"ونقول إنّ الأنعام السابلة التي فيها المنافع والفضيلة، لا بدّ لها من راع يرعاها، ويحفظها ويختار لها موضع علفها ومشربها، ويرعاها من اللصوص والسباع، والتي لا يوجد لها من يقوم بذلك تهلك، ولا يمكنها تدبير أمورها ودفع الشرّ عنها، فكذلك الناس مثل الأغنام، إذا لم يكن لهم راع يحافظ عليها تهلك والإمام [ أي الحاكم] هو راعي الكلّ" (ص52).

سيهطل المطر يوما في الخريف قبل أن يأتي الربيع وتتفتّح أزاهير الياسمين

كان الفيلسوف محمد عابد الجابري قد أشار في كتابه"العقل السياسي العربي" إلى أنّه في الغرب كان على الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو(Michel Foucault) أن يقوم بحفر آركيولوجي في مفهومي الراعي والرعيّة حتّى يثبت أنّ الديمقراطيات الغربيّة تخفي من وراء مظاهرها البرّاقة "تقنية غريبة" في ممارسة السلطة. ولسنا في حاجة إلى أن نقوم في العالم العربي، بنفس العمل الذي قام به فوكو حتّى نثبت أنّ واقع السلطة العربيّة يقوم على تقنية قوامها راع واحد يقود الرعيّة برمّتها. لقد أوهمت الثورات العربيّة التي حدثت في السنوات الأخيرة الكثير من الناس بأنّ الشعوب العربيّة قد انتفضت ضدّ السلطة الرعويّة وبمعنى ما لم تعد قابلة لتلك الاستعارة القديمة التي جعلت منها بمثابة قطيع من الأغنام يسوقها راع، تارة يلوّح لها بالعصا الغليظة وأخرى يطربها بالعزف على المزمار. غير أنّ الأمور لا تسير بمثل هذه السهولة.

فعلى الأرجح أنّ هذه الشعوب لم تضع السلطة الرعويّة التي لم تعرف غيرها طيلة قرون موضع تقويض وتجاوز إلى ربط عقد اجتماعي مع حكّامها وإنّما انتفضت على رعاتها لأنّهم لم يكونوا أهلا لهذه الرعويّة أي رعاة"سرّاح" جيّدين لكونهم أخلّوا بوظيفة أساسيّة من وظيفتهم الرعويّة وهي توفير الكلأ والعشب، أي توفير الغذاء ولقمة العيش. إنّ النظر بعمق هذه الأيّام في سلوكيات الجماهير وهي تطارد المترشّحين التونسيين للرئاسة طالبة منهم توفير الأمن والشغل والعيش الكريم يثبت بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ انتظارات أغلب الناس من حكامها"الديمقراطيين" تختلف عن انتظاراتهم هم من الديمقراطيّة التي ضحّى بعضهم من أجلها والمتمثّلة أساسا في ضمان حرّية التعبير والسهر عليها وليست كذلك حراسة الهويّة وصونها – فهي لدى هؤلاء مصونة بطبعها وليست في حاجة إلى وصيّ عليها – وإنّما في توفير الشغل وضمان لقمة العيش"بالحدّ من ارتفاع الأسعار" أي الغذاء في اللّغة الرعويّة.

إنّ تشبيه الشعب بالرعيّة، بالغنم يثير رفضا في الفكر السياسي المعاصر. فالشعب لم يعد يُنظر له بمنظار رعويّ وفي أسوء الحالات هو الذي يختار راعيه متخطّيا الوصاية التي فُرضت عليه باعتباره حيوانا غير عاقل لا يمكنه أن يختار من يحكمه، مستحضرين في ذات الوقت هؤلاء الأسلاف المسلمين القدامى من المعتزلة، كما يعلمنا ابن خلدون في مقدّمته، الذين رفضوا مقولة الراعي البشري"خليفة" أو"إماما" يحكم باسم اللّه باعتبار أن اللّه وحده هو الراعي ولا يمكن لأحد أن يستعير منه هذه الصفة معتبرين أنّ الأمّة إذا تواطأت على فعل الخير يمكن أن ترعى نفسها بنفسها وهذا لا يتمّ لها عمليّا إلّا إذا تجاوزت مرتبة الأغنام والأنعام. لكن من يتأمّل المشهد السياسي العربي الآن لا ينبغي أن تفوته هذه الحقيقة المتمثّلة في أنّه ما أشبه الليلة بالبارحة.

سقط ابن علي ومبارك والقذافي لأنّهم لم يكونوا رعاة جيّدين: استعملوا العصا الغليظة دون أن يوفّروا كلأ وعشبا ولم ينفعهم النفخ في المزمارطويلا. بسقوطهم توحّشت الرعيّة وتسبّعت بلغة النيسابوري الشيعي الباطني واستذْيبت وتضبّعت، بلغتنا، ولم يعد هناك من يفرّق بين أولاها وأخراها، بعضها يتناطح بالقرون ومشتقاتها من الأسلحة الحديثة وبعضها الآخر يتلاسن بخناجر السبّ والشتم والقذف ولا شيء يوحي إلى حدّ الآن أننّا، ونحن نعيش"الكرنفال الديموقراطي" الذي ضحّى من أجله الآلاف من شبابنا بدمائم، تجاوزنا فخاخ الرعويّة. لا شيء يوحي بأنّ الحاكم الجديد الذي أتت به الثورات العربيّة قد نزع عنه برنس الراعي. يهرول يمنة ويسرة يبشّر بتوفير الكلأ والعشب والماء للجميع مع علمه أنّ السماء لا تمطر ذهبا وفضّة وأّنّ السحب القليلة المتناثرة في كبد السماء غير كافية إذا ما نزلت لتوفيرها للجميع في انتظار أيّام أجمل، و لا شيء يوحي بأنّ الشعوب في مجملها قد تخطّت مرحلة البحث عن راع إلى مرحلة التعاقد الفعلي والعقلاني مع من يحكمها. الديموقراطيّة، قبل أن تكون انتخابات وصناديق اقتراع ، هي قبل كلّ ذلك استعداد ثقافي وذهني ونفسي ينبغي فلحه في عمل طويل ودؤوب. المرحلة غائمة وملبّدة، ليس ثمّة أجمل ممّا قاله الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب في أنشودة المطر للتعبير عنها:
"سحائب مبرقات مرعدات
بقينا العام بعد العام نرعاها
وريح تشبه الإعصار
لا مرّت كإعصار ...ولا هدأت
ننام ونستفيق ونحن نخشاها"
ولكن سيهطل المطر يوما في الخريف قبل أن يأتي الربيع وتتفتّح أزاهير الياسمين .