Atwasat

وباء القطعان!

محمد عقيلة العمامي الأربعاء 19 نوفمبر 2014, 01:57 مساء
محمد عقيلة العمامي

أعطيتُ صاحب القرطاسية ورقة خمسين جنيها لسداد كراسة ثمنها تسعة جنيهات. سحب الحاسبة ونقص تسعة من خمسين، قبل أن يفتح خزنته، وعاد ثانية إلى الحاسبة بعد أن أعطاني أربع ورقات من فئه العشرة جنيهات، ثم حدق ثانية في نتيجة الحاسبة قبل أن يعطيني الجنيه الباقي! خطر على بالي سطر يقول:"المصيبة في هذا العصر التكنولوجي ليس في الآلات، التي تفكر كيف الناس، ولكن في الناس الذين صاروا يفكرون مثل الآلات!!".

الحقيقة أنه لا دخل للآلة فيما يحدث لدماغ الإنسان، حتى يتصرف مثل الآلة! ولكن السلطة التي تحكمه هى التي تتدخل في حياته، من الروضة حتى تخرجه في أية جامعة، لتجعل منه مجرد ترس، يعمل بهمة واقتدار في آلة النظام...أي نظام !! نظام مؤدلج، أو من دون آيديولوجية، لا فرق.. قد تكون سلطة قمع واستبداد وفكر واحد، فيعمل النظام على طمس تاريخ الناس، واستقلاليتهم، بكافة وسائل الإغراء المادي والمعنوي، ثم إن لزم الأمر بالترهيب والقمع والتخويف. لا يمل، ولا يكل حتى يحولهم إلى قطيع، يعمل، ويأكل.. ويجتر، ويهز رأسه المفرغ من أية ذاكرة حقيقية، سوى كونه جزءا من النظام.. حينها يصير مجرد ترسٍ في الآلة، أو تيسٍ في قطيع!.

لاحظوا أنني لم أحدد نظاما بعينه، لأن القطيع هو القطيع. الأحرار فقط هم الرافضون، المقاومون لنظام هز الرأس والسير مع القطيع.. الذين يتفكرون في خلق الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم .. الذين يكتبون تاريخهم بدمائهم، بعذابات نفيهم وسنوات سجنهم من أجل حرية معتقداتهم، وقناعتهم، وما يرون أنه حق.. وليس كما يحاول أي نظام أن يفرضه لمصلحة غير مصلحة الحرية والوجود والحياة، أما غير ذلك فباطل الأباطيل.

قرأت للكاتب العماني سيف الرحيبي، مقالة عنوانها (جدل الأشكال الشعرية ونزار قباني) اختتمها بقصيدة، لا أعرف إن كانت من شعره، أو من شعر نزار قباني لأن تقرير ذلك لم يكن واضحا في المقالة، ولأنني، وإن كنت قد قرأت معظم ما كتب الراحل نزار قباني، لا أذكر أنني قرأتها من قبل. تقول القصيدة:
"ليذهبوا حيث شاءوا
للمقاهي والكنائس والساحات
للجبال والسهول والوديان.
سيتكلمون لغتنا لا محالة
تلك اللغة التي اكتسبناها
بخبرة الألم والعذاب.
حفريات لا تخوم لها في هذا الجسد
ورغبات لا تحدها الجدران والأقبية.
من أين أجيء بعزلات أكثر
كي أحمي هذا الروح من وباء القطعان
من أين أجيء بأيام، يسيجها البداة والأقمار
في قلب الصحراء
لا أسمع فيها غير ثغاء الماعز
وعواء الذئاب
أيام أرتشف فيها مياه الأسلاف
مثلما أرتشف قهوة الصباح.
كل شيء مضى في حال سبيله
وبقينا هكذا
مسمّرين فوق أرض تنهار باستمرار.
كل شيء مؤجل إلى الغد
وكل غد إلى الآخرة.
لا بـأس أن تجز السكين الوريد
وأن تسمع الذئب في هجعة الليل
يدعو ضحاياه إلى وليمة.
لا بأس أن يعدو القطيع إلى حتفه
وأن تهيئ الأم العروس
في إكليل الورد
متذكرة صباها.
لا بأس أن يقتحم الفجر غرفتي
ناضحا بفصوله الدموية أبواب العالم.
لا بأس أن تطيل أظافرك وأسنانك
وتغمدها في جسد
طالما اشتقت إليه.
ولا بأس أيضا
أن أجد جثتي ذات صباح
مؤجلا دفنها إلى الغد."

وهكذا، كما ترون، المعني هو المعنى، والشاعر هو الشاعر سواء أكان من مسقط، أو من دمشق.. أو من عرجون الفل !