Atwasat

فن الخداع

سالم العوكلي الإثنين 17 نوفمبر 2014, 12:10 مساء
سالم العوكلي

استسلمت لفترة طويلة، مثل الكثيرين، لخدر خداع سينمائي قامت به المؤسسة الهوليودية بحرفية عالية، عبر الأفلام التي تتعاطى مع الغزو الأميركي لفيتنام البعيدة، حيث يبدأ معظمها بحقن الشخصيات الرئيسة بجرعة إنسانية قادرة على أن تستلب عواطف المشاهد إلى النهاية، يودع المحاربون الطيبون عائلاتهم وأطفالهم وسط حفلة من الدموع والحنان، لنجدهم بعد ذلك يحاربون وسط أدغال فيتنام في غابات من الوحوش البشرية، وعندما يصاب أحد الجنود الأميركيين يُعرض المشهد ببطء وتتوقف الموسيقى ليخرج من جيبه صور عائلته أو صديقته، بينما تتساقط جثث الفيتناميين من الأشجار وكأنهم مخلوقات جاءت من كوكب آخر لتدمر الأرض، وبالطبع لا نجد أي مناص من الانحياز إلى أبطال الفلم الطيبين، متمنين الفناء لتلك الوحوش، حتى يعود الجنود إلى عائلاتهم في نهاية سعيدة.

أي لعبة هذه التي تجعل من الغزاة بشرًا طيبين ومن المدافعين عن أرضهم وبيوتهم وحوشًا

وعندما استيقظت من هذا التنويم السينمائي الماهر صرت أفكر أن للفيتناميين الذين يتساقطون بالعشرات أيضًا عائلات وأطفالاً وأحلامًا، وأن التقنية الدرامية الموجهة فقط هي التي فرغتهم من كل محتوى إنساني وأخرجتهم لنا بوجوه بشعة ومكشرة ليست لها هواية سوى التعذيب. فأية لعبة هذه التي تجعل من الغزاة بشرًا طيبين ومن المدافعين عن أرضهم وبيوتهم وحوشًا.

إنها لعبة قديمة بدأت مع الأشرطة التي تتعامل مع غزو الهنود الحمر، ومازلنا نتابعها في خطب رؤساء أميركا حتى الآن عبر ملحمة من التضليل سوف لن تكف قريبًا، وبوضوح مازلنا نتابع هذه الخديعة الذكية والساذجة، في الوقت نفسه، في المهرجانات الانتخابية التي تتبنى بشكل كبير تقنيات هوليود التخييلية، التي تقلب المعايير، وتبدل القيم، بشكل مسرف في غيه. فإحدى نقاط قوة أي مرشح أميركي للرئاسة هي كونه أحد غزاة فيتنام، وهي النقطة المركزية التي أشار إليها الرئيس بوش في خطابه بمؤتمر الحزب الجمهوري، حيث قارن بين اليسار الأميركي الذي يعرقل ماكين ومُعذِّبي هانوي الذين حاولوا إضعاف عزمه عندما كان معتقلاً في هانوي، وفي هذه اللحظة لن يقفز شيء إلى مخيلة الناخب الأميركي سوى الصورة الهوليودية لحرب فيتنام، باعتبار أن الرأي العام مازال تحت تأثير ذاك التنويم السينمائي المبرمج.

إن اللعبة بكاملها لم تعد مثيرة ولا حَذِقة، لكنها مازالت تؤتي نتائجها في مجتمع ديمقراطي يخضع بالكامل لسلطة الميديا، وهي معادلة صعبة عملت على ترسيخها مؤسسات كبرى لتصبح جزءًا من جينة ذاك المجتمع الذي تتقاذفه ثنائيات عدة، حيث لا مكان لخيار ثالث، تبدأ من لافتة الكاوبوي الشهيرة (مطلوب.. حيًا أو ميتا) مرورًا بهيمنة حزبين لا ثالث لهما، وصولاً إلى تقسيم العالم إلى محور خير ومحور شر. أما نحن فلا خيار لنا سوى بين اثنين، أحدهما يشهر المسدس بيده اليمنى والآخر بيده اليسرى.

ما نشاهد الآن في المنطقة فيلم هوليودي أُعدَّ بتقنيات عالية، يُطلق الشر يعيث خرابًا وتنكيلاً طيلة الأحداث، حتى يأتي البطل الأميركي الأسطوري ويقضي عليه في النهاية، ويحتضن حبيبته، أو زوجته، ذاهبًا ومن خلفه الدخان. وإذا نجح الفيلم فثمة جزء ثانٍ وثالث ورابع، وها نحن نتابع أجزاء هذا الفلم وكل مرة بإنتاج جديد وبتقنيات جديدة.

نشاهد الآن في المنطقة فيلم هوليودي أُعدَّ بتقنيات عالية

أو فلم تعتمد حكايته على تلاعب بالجينات، يؤدي إلى ظهور مسخ يخرج عن السيطرة، وتبدأ ملاحقته وهو يقتل ويترك الدمار خلفه حتى يُروَّض في النهاية بتدخل البطل الأميركي الذي لا يهزم.
تخلق أميركا مسوخها في منطقتنا وتطلقها تقتل وتفتك، ثم تتدخل بمشاهد هوليودية تبث في نشرة الأخبار، تقضي على هذا المسخ. لكن المخرج لا ينسى أن يضع لنا بذرة الجزء الثاني، عبر جنين منسي من هذا المسخ يتثاءب في آخر الفلم ويفتح فمه الصغير على وسعه.

نفسها اللعبة تتكرر ونحن، المتفرجين، نصفق في كل نهاية ونخرج متطهرين فرحين بالنهاية الموقتة للشر وفي انتظار الجزء الثاني، ودائمًا في انتظار البطل الأميركي المخلص.