Atwasat

ترحال: لعبة الانتخابات وما بعدها في تونس

محمد الجويلي الأحد 26 أكتوبر 2014, 02:37 مساء
محمد الجويلي

مصطلح لعبة للدلالة على الفعل السياسي وما يحفّ به من مناورات وحسابات وكرّ وفرّ هو من المصطلحات الغريبة عن الثقافة العربية الإسلاميّة ووقع استيراده من جملة ما وقع استيراده من الغرب. في بداية التسعينات كنت في زيارة إلى المغرب وتزامن وجودي هنالك مع انتخابات برلمانيّة كثر فيها استعمال هذا المصطلح في وسائل الإعلام ومن قِبل المترشّحين للانتخابات أنفسهم وحتّى من بعض المثقّفين المحلّلين للانتخابات وما يحفّ بها من تحالفات وصراعات وربطها بالسياقين المحلّي والإقليمي والدولي، ما استفزّ الملك الحسن الثاني وأثاره فألقى خطابا تابعته باهتمام استنكر فيه استعمال تعبير"لعية سياسيّة" المترجم حرفيّا عن الفرنسيّة(jeu politiqu) دون إعمال للذهن والعقل ومراعاة للخصوصيّة المغربيّة العربيّة الإسلاميّة مؤكّدا في ذات الوقت على ركاكة هذا التعبير وعلى أنّ السياسة على حدّ تعبيره" ليست لعبة لدينا وإنّما هي عمل جدّي: رعاية شؤون الأمّة والسهر على مصالحها ويتوقّف عليها مصيرها حاضرا ومستقبلا".

هل سيواصل السياسيون ألاعيبهم في تمزيق الشعب إلى أقطاب متناحرة

قضيّة المصطلحات والمفاهيم في الفكر العربي الحديث هي من القضايا المعقّدة تعقّد الانتخابات والظروف الحافة بها. وفعلا فإنّ الملك الحسن الثاني كان على حقّ بلفته الانتباه إلى ركاكة النقل الحرفي للمصطلحات الغربيّة، خاصة عندما يتعلّق الأمر بالقضايا الحيويّة للشعوب والأمم وسياسة أحوالها ومعاشها. كلّما استمعت في تونس لهذا المصطلح على ألسنة سياسيي الأربع سنوات الأخيرة من الزعماء الجدد الذين جاءت بهم عوارض التاريخ وحوادثه إلّا وتذكّرت خطاب الحسن الثاني وخُيّل إليّ حقّا أنّ هؤلاء، وهم يتحدّثون عن اللعبة السياسيّة وهذه الأيّام عن اللعبة الانتخابيّة، لا يستعملون فقط مصطلحا ركيكا يجهلون مقامه باعتباره قد صيغ في لغات وثقافات أخرى غريبة عنّا وإنّما، دون وعي منهم، يعبّرون عن حقيقة ممارستهم السياسيّة التي لا يمكن فهمها إلّا بوصفها لعبا بمصالح الناس واستهتارا بمستقبل الأجيال.

اللعب بدأ في الحقيقة في المجلس الوطني التأسيسي وبلغ أوجه في رحابه وتحوّل في الكثير من الأحيان إلى«سيرك عمّار» وقعت فيه ممارسة كلّ أنواع الألعاب البهلوانيّة والتدرّب على التهريج والتمثيل، وكلّ ما يتمنّاه التونسيون الآن ويسعون إليه هو أن يقطع البرلمان الجديد المنبثق عن هذه الانتخابات التشريعيّة مع تقليد اللّعب السيْ الذي سنّه هذا المجلس حتّى غدا مضرب الأمثال في العبث بمصالح البلاد ومحلّ سخرية الشعب واستهزائه وقرفه. وفي الحقيقة فإنّ اللعب أنواع وتتفاوت خطورته من واحد إلى آخر ولكن أخطره هو عندما يتدافع المترشّحون تدافع الصبيان للظفر بكرسي في البرلمان"يتسلّقون بعضهم البعض- كما يقول الفيلسوف الألماني نيتشه- ..............

«إذا طاح القدرْ انتهت العيشة»

الكثير من المظاهر التي رافقت الحملة الانتخابيّة التشريعيّة في تونس هذه الأيّام تدلّ على انعدام الجدّية اللّازمة لدى بعض المترشّحين، وليس كلّهم بالطبع، وكأنّ المسألة لعبة أطفال «سيّئي الطباع» حتّى لا نقول أشرار، فعلاوة على إغراء بعضهم الناخبين بالحلوى المسمومة، بالمال الفاسد– وهو تعبير آخر في حاجة إلى مراجعة فما علمنا بأنّ ثمّة مالا فاسدا في ذاته وإنّما يفسد بفساد صاحبه- لا يتورّع البعض ممن الغاية عنده تبرّر الوسيلة عن تجريح خصمه بأقذع النعوت والأوصاف، التي يخجل المرء من مجرّد ذكرها، وهو ما يخلّ بمبدأ أساسي في الاجتماع الإنساني، فما بالك بالاجتماع السياسي وأكثر من ذلك بالديموقراطي، ألا وهو مبدأ الاحترام.

«إذا طاح القدرْ انتهت العيشة» تقول الحكمة الشعبيّة، ومعنى ذلك إذا فُقِد الاحترام فعلى الدنيا السلام، أي لم يعد ثمّة إمكانيّة للعيش المشترك. وهذا ينسحب على الزواج وبنفس القدر على الديموقراطيّة.

لا يمكن نفي أنّ تونس تعيش احتفاليّة كبرى هذه الأيّام بمناسبة الاستعداد للانتخابات التشريعيّة، فيها تنافس حقيقي بين الأحزاب لم تشهده البلاد إلّا مرّة واحدة في تاريخها منذ ثلاث سنوات يأمل من خلالها التونسيون في إرساء مؤسّسات دائمة للحكم تخرجهم من جحيم المرحلة الانتقاليّة التي طالت أكثر من اللّزوم، ولكن هذه الاحتفاليّة المتفائلة لا يفسدها الخوف من الإرهاب الذي يمكن أن يطلّ برأسه في كلّ لحظة، ما استدعى استنفارا أمنيّا شاملا في كامل البلاد من شمالها إلى جنوبها، فحسب، و إنّما كذلك «لعب» بعض السياسيين الهواة غير المسؤولين الذين يلهون بأعصاب الشعب ومصيره.

وفي الحقيقة فإنّ الشعب التونسي الذي مازال جزء مهمّ منه متردّدا بين التصويت إلى هذا الحزب أو ذاك فضلا عن الجزء الآخر الذي لا يقلّ أهمّية العازف عن التصويت والذي لم يسجّل اسمه أصلا عقابا للسياسيين وتعبيرا عن يأسه منهم أجمعين لا يدين بولاء لأيّ حزب ما عدا لقمة عيشه ومصير أطفاله ولا يهمّه منْ سيفوز بالانتخابات زيد أو عمر، بل أنّ الانتخابات لا تهمّه لذاتها كما هو حال البعض من السياسيين الذي لا همّ له من خلالها ماعدا ضمان كرسي ووجاهة تحت قبّة البرلمان وإنّما ما ستفرزه من آثار ملموسة على حياته وهنا مازال التونسيون في غالبيتهم متشائلين( والمصطلح للروائي الفلسطيني ايميل حبيبي) أي في منزلة بين التفاؤل والتشاؤم.

هل سيواصل السياسيون ألاعيبهم في تمزيق الشعب إلى أقطاب متناحرة واتباع سياسة فرّق تسد وإهمال الحاجيات الأساسيّة لمواطنيهم، أم أنّهم سيقفزون فوق أنانيتهم وحساباتهم الضيّقة ويسيرون بالبلاد إلى شطّ الأمان. سيكون في تونس يوم الأحد فائز وخاسر ولكن الخسران الأكبر أو الفوز الأكبر لن يبوح بسرّه في هذا اليوم ولكن بعد شهور وأيّام.