Atwasat

مطب لكل مواطن

سالم العوكلي السبت 25 أكتوبر 2014, 10:53 صباحا
سالم العوكلي

حين تفتح الصفحة في الفيس بوك يقابلك على الجدار سؤال مربك ، بمَ تفكر؟، أحيانا نتجاوزه، لنتصفح إجابة الآخرين عن هذا السؤال المبدئي الموجه في اللحظة نفسها لمئات الملايين من رواد هذا العالم الافتراضي، الذي أصبح، في الواقع، العالم الواقعي الوحيد في حياتنا، وغدا كل ما نتابعه- من وقائع يومية، ومن حوارات فضائية، ومن عناوين صحف، ومن أخبار عاجلة- غدا عالمنا الافتراضي العصي على الفهم.

جل الملصقات يفكر بغضب في ما يحدث في هذا العالم، وجل هذا الجل يفكر في ما يحدث على أرضنا الليبية خصوصا. فكرت لحظتها في حديث الساعة؛ في الندوات التلفزيونية التي تجتر الأسئلة نفسها والإجابات الواثقة نفسها، وفي بيانات التشكيلات المختلفة التي لا تفتقد سوى كونها تشكيلات فعلا، في الحديث الممضوغ عن الديمقراطية والشرعية والشفافية وغيرها من القيم المدنية، التي فاضت في العالم عن مراحل من التنوير ومن فتوحات العلم.

فكرت في كل ذلك وكتبت على جداري: استغرب كيف يتم الحديث بحماس عن المسار الديمقراطي، والدستور، والشرعية، والشفافية، والتعديل الدستوري، ودولة القانون، ونزاهة الانتخابات القادمة، وأداء الحكومة الشرعية، والنصاب القانوني، والكتل السياسية، والدولة العميقة، ونزاهة المحكمة العليا، في بلد 90% من السيارات في شوارعه وطرقاته تتسكع دون لوحات ودون هوية. بدا لي الأمر وكأنه فكاهة سياسية كبرى، فكاهة ؛ بمعنى (Irony) ، تلك الحالة الشاملة التي تحمل في معناها خليطا من المفارقة، ومن السخرية، ومن القلق المفضي إلى ضحك جارح. علق أحد الأصدقاء الافتراضيين: وكيف حددت أن النسبة 90% علقتُ على تعليقه: الأمر لا يحتاج إلى بحث أو مراكز استطلاع متخصصة، اجلسْ على الرصيف في أحد الشوارع أو على قارعة الطريق، كما فعلتُ، وسترى أن كل عشر سيارات، تقريبا، تمر منها 9، تقريباً، دون لوحات. علق آخر: الدستور سيحل كل هذه المشاكل. ولا تعليق.

يُحكى أنه في سنين عجاف، كان الجوع سيد المكان، اقترب الذئب الجائع من نسر قد نفش ريشه وبدا في ذروة حيويته وانتعاشه، وسأله: من أين لك كل هذه التخمة في سنين الجوع هذه، فرد النسر: الأفق هناك، مليء بلوايا الضأن(اللوايا جمع لية وهي شحم مؤخرات الضأن)، فقال الذئب لو تأخذني معك إلى ذاك الأفق يكاد الجوع يقتلني. امتطِ ظهري وتمسك جيدا، قال النسر وهو يرخي جناحه، حلق الذئب على ظهر النسر في الأفق الواعد بوليمة فاخرة، وبعد ساعات من التحديق لم يرَ الذئب أو يشم شيئا في الأفق، فلم يطق الذئب صبرا وقال: تعبت، أين لوايا الضأن؟ إني لا أرى شيئاً، وعندها ضحك النسر وهز ظهره فسقط الذئب من علٍ كقذيفة برأسه حتى وقع في غدير كانت على ضفته نساء يغسلن الملابس، مسحت إحداهن عينيها وقالت للرفيقات: هل ثمة ذئب سقط من السماء أم اني انخبلت؟. خرج الذئب مقرورا وجائعا: وقال: المخبول هو من يبحث عن لوايا الضأن في السماء.
لا أعرف سر ولعي بمثل هذه الحكايات في هذا الوقت، ولكن يبدو أن استرجاع حكايات الخيال الشعبي طريقة ما لاستشراف هذا الخيال الذي كان يحاول أن يفهم ما يدور، الحكاية وجع شعبي قديم يروض بها الكادحون في السنين العجاف وطأة مرور الوقت ببطء شديد، وكانت الحكاية اقتراحهم الإبداعي لمحاولة الإجابة عن السؤال الأزلي الموجه للإنسان: بم تفكر الآن؟.

يحضرني كل هذا وأنا أفكر الآن في المحكمة الدستورية العليا، هذه المؤسسة التي تبدو وكأنها الناجي الوحيد وسط هذا الخراب، أو الفكرة الجادة والمحصنة في قلب هذه الفكاهة السياسية الشاملة، الكل متعلق بها، ومعلق مصير هذا البلد بحكمها المنتظر على دستورية البرلمان المنتخب، ويذكرني ذلك بأسطورة حديثة وقعت في إحدى القرى الواقعة على ساحل المحيط الهادئ، عندما ضرب تسونامي تلك القرية ودمر كل شيء فيها وطفحت الجثث المجهولة وغير المجهولة على الماء الغاضب، وكما تقول الأسطورة لم ينج شيء سوى معبد قديم ظل واقفا وصامدا وسط هذا الخراب والموت، فكان هذا المعبد هو العزاء والسلوى الوحيدة للقلة الناجية.

تسونامي الثورة الغاضبة ضرب ليبيا، ودمر كل شيء تقريبا، في بلد كان الدمار أصلاً جزءا من بنيته. كل يوم يتم العثور على جثث مجهولة قطع رؤوسها مجهولون في ظروف مجهولة، ميليشيات أكثر من القبائل الليبية، قصف عشوائي على المدن والمطارات والقرى، مخيمات نازحين في الداخل وأرصفة نازحين في الخارج، ثلاث حكومات كلها تدعي الشرعية، برلمانان بينهما برزخ من الرمال كان لزمن طويل مرتعاً لقطاع الطرق، حلبات فضائية تتطاحن على الهواء مباشرة، أملاك دولة سابقة تُقتحم وتُنتهك، غابات تتحول إلى أكياس فحم، و 90% من السيارات تتجول في الشوارع والطرقات وتتنقل آلاف الأميال في أرضنا الشاسعة دون لوحات، لا يوقفها أحد سوى المطبات التي تتكاثر يوميا كطفح جلدي، للدرجة التي يقول البعض أن الخطة الخمسية القادمة شعارها: مطب لكل مواطن، وكل مطب على الطريق يقابله مطب سياسي، دون علامات تنبيه، لا يمكن تفاديه .

كل هذا وتظل المحكمة الدستورية ناجية برعاية إلهية مثل المعبد القديم وسط خراب تسونامي. ونظل نحن في هذه السنين العجاف حالمين، مثل الذئب الجائع، بلوايا الضأن في السماء .

الترف السياسي تعويذة الحائر، وبهذا المعنى يشبه العاري تماما الذي يتشبث بخاتم على إصبعه ليستر عورته، ويبدو كعزاء أخير وسلوى لمن فقد كل شيء، لذلك سيقول المحللون في الخارج والمحرِّمون في الداخل، المحكمة الدستورية هي الفيصل، وهي النسر القوي القابع على صخرة يراقب هزال الكائنات الزاحفة، أو هي القشة الأخيرة المتعلق بها الغريق.

كل التوصيفات تقترب، ولا أشكك في نزاهة القضاة الليبيين، لكن حتى النزاهة لا يمكنها أن تصمد في مملكة الرعب الوطني.

محكمة دستورية في عاصمة محتلة، خارج سيطرة الشرعية، الشرعية المطعون فيها حتى الآن، محكمة دستورية مصوبة تجاهها المدافع والبنادق، لا حامي لها ولا حصن ولا من يقول حص، يحس من فيها أنهم يؤجلون الحكم كي يؤجلوا احتمالية قتلهم، إذا ما أصدروا حكما في غير صالح من يحكمون القبضة على مكانها. الجميع يقول سنحترم قرارها، ولا أحد فوق الأرض يتمنى أن يكون عضوا فيها، لا أحد يثق في أسطورة المعبد الناجي.
ورغم كل شيء، لا استبعد معجزة أن يكون الحكم نزيها وشجاعا، فقط لأن ليبيا الخارجة عن الطور، هي أرض المفاجآت بامتياز، التي دوخت المراقبين والمؤرخين.