Atwasat

عن الدين والأخلاق

عمر أبو القاسم الككلي السبت 25 أكتوبر 2014, 10:51 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

تصادف أن وقفت، وأنا أنتظر صديقا بأحد شوارع تونس العاصمة، بالقرب من نصبة صغيرة تباع بها الصحف وبعض السلع الصغيرة الأخرى. أخذ صاحب النصبة يحاول تثبيت علم حزب حركة النهضة بين الصحف متبادلا الحديث مع شخصين آخرين من أصدقائه وكان الحديث يدور، بطبيعة الحال، حول الانتخابات. أعلن ثلاثتهم أنهم سيمنحون أصواتهم لمرشحي حزب حركة النهضة، وعلل أحدهم دوافع ذلك بأن مرشحي حزب حركة النهضة"يخافوا ربي".

ما شد انتباهي في هذه الواقعة هو أنهم لم يتحدثوا، أثناء حضوري، عن برنامج حزب حركة النهضة الانتخابي وأنهم سيدلون بأصواتهم لفائدة هذا الحزب بناء على أن برنامجه الانتخابي يحفظ مصالحهم ويحل المشاكل الاجتماعية المتعلقة بحياتهم اليومية ووضعهم الاجتماعي إلخ. وإنما تم قرار منح الصوت على أساس"الراية الدينية" التي يرفعها هذا الحزب. وما من شك في أن نسبة غالبة من الفئات الشعبية في البلدان الإسلامية تمنح صوتها في الانتخابات بناء على الراية الدينية، وليس لمحتويات البرنامج الانتخابي. أي للـ"قداسة" وليس لجاذبية"الوعود" الانتخابية.

هذا يفضي بنا إلى ظاهرة أخرى وهي الربط المباشر بين الأخلاق والدين(هنا الدين الإسلامي تحديدا). فالمتدين حسن الأخلاق، ضرورة، وغير المتدين سيء الأخلاق، ضرورة. وهو ما يعني وقفَ الأخلاق على المتدينين المسلمين وإنكارها على غير المتدينين، وأتباع الديانات الأخرى كافة.

لا ننكر، بطبيعة الأمر، دور الأديان(ومن بينها الدين الإسلامي) في التربية الأخلاقية وغرس القيم وتنميتها في النفوس. ولكن المسألة الأخلاقية، بداية ونهاية، هي شأن إنساني عام وليست احتكارا لأتباع دين معين أو شعب محدد أو ثقافة مخصوصة. فتاريخيا كان نشوء القيم الأخلاقية سابقا على انبثاق الظاهرة الدينية.

في كتابه"فجر الضمير" يقول جيمس هنري برستد*، بهذا الخصوص:"الدين في طوره الأول لم تكن له علاقة بالأخلاق كما نفهمها الآن، كما أن المبادىء الأخلاقية الأولى لم تكن سوى عادات شعبية قد لا تكون لها علاقة بالشعور بالآلهة أو الدين"(ص 34). ويقرر أن التمييز الأخلاقي نشأ، أول ما نشأ، في الأسرة حين"وصلت حياة الأسرة إلى درجة سامية من الرقي تزينها العواطف الرقيقة التي أوشكت على التعبير عن مظاهر الرضى أو السخط، وأفضت إلى تصورات عن السلوك الحميد والسلوك المعيب. وبذلك بدأت المشاعر الباطنية"للضمير" تسمع صوتها للإنسان. ولأول مرة صار الإنسان يدرك القيم الأخلاقية كما نعرفها نحن الآن"(ص34-35). ويؤكد، في ما يخص العلاقة بين الحياة الاجتماعية والدين، أن علاقات الحياة الاجتماعية هي التي كانت تؤثر في الدين. أي أن الدين كان يتبنى القيم الأخلاقية الإيجابية التي تبلورها علاقات العيش الاجتماعي المشترك. يقول:"وعلى ذلك أصبحت قوة الإنسان الظاهرة المنظمة، وقوة الوازع الخلقي الباطنة فيه، تؤلفان قوتين مبكرتين في تشكيل الديانة المصرية"(ص35).

وللتدليل على تغور القيم الأخلاقية الإيجابية في التاريخ البشري نورد، من خلال برستيد، سطورا متفرقة من" كتاب الموتى" الفرعوني الذي قد تكون جمعت نصوصه في منتصف الألف الثانية قبل الميلاد.

الأسطر من دفاع شخص متوفى عن نفسه أمام محكمة الآلهة يوم الحساب:
"إني لم أرتكب ضد الناس أي خطيئة...
إني لم آت سوءا في مكان الحق،
إني لم أرتكب القتل،
ولم آمر بالقتل،
إني لم أرتكب الزنا.
إني لم أسرق امرءا ينتحب على متاعه.
إني لم أغتصب طعاما.
إني لم أنطق كذبا.
إني لم أنقص مكيال الحبوب.
إني لم أسب.
ولم أكن متكبرا."(ص215، ص 218)

أما بالنسبة إلى الأخلاق لدى العرب قبل الإسلام فإن الشعر العربي المتحدر إلينا من تلك الفترة يحفل بالإشادة بالقيم النبيلة والسلوك الحميد. كما أن الرسول نفسه أكد في الحديث المشهور المتداول"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" على أن الإسلام أتى، من هذه الناحية، حلقة في التطور الأخلاقي لدى البشرية ولم يكن مبتدئا من الصفر. وأبسط دليل على ذلك أنه توجد في اللغة العربية مفردات تدل على هذه القيم، الأمر الذي يعني أنها كانت موجودة وتُمارس ويتم الحض عليها من قبل البعض، وإلا لما فُهم المقصود بـ"الإحسان" مثلا عندما يحظ عليه القرآن.

وفي هذا السياق نورد حادثة أوردها د. سيد محمود القمني في كتابه"حروب دولة الرسول"** نقلا عن السهيلي في كتابه"في شرح السيرة النبوية لابن هشام":

"وفي رواية لأبي عبيدة
(أن أبا العاص لما قدم من الشام ومعه أموال المشركين:
قيل له: هل لك أن تُسلم وتأخذ هذه الأموال، فإنها أموال
المشركين.
فقال: بئس ما أبدأ به إسلامي، أن أخون أمانتي)"(ص191).

ليس من مهمة هذا المقال تفصيل القول في علاقة الدين بالأخلاق، ولكن همه هو الإشارة إلى خطأ الربط المباشر بينهما كعلة، هي الدين، ومعلول، هو الأخلاق أو السلوك الإيجابي. ومن ثم خطأ الاعتقاد السائد لدى المسلمين بأن الأخلاق الحميدة نشأت مع الإسلام وأن المسلمين يتفوقو ن على سواهم أخلاقيا. فالمسلمون ليسوا هم الأفضل أخلاقيا، كما أنهم ليسوا الأسوأ، والمتدينون المسلمون لا يمنحهم تدينهم مرتبة أخلاقية أرفع من غير المتدينين بمقتضى هذا الاعتبار وحده.

* جيمس هنري برستد. فجر الضمير. ترجمة الدكتور سليم حسن. مكتبة مصر، الفجالة(د.ت). وأرقام الصفحات المذكورة في المتن تحيل إلى هذه الطبعة.
** سيد القمني. حروب دولة الرسول(جزآن). ضمن مجلد: إسلاميات. قراءة اجتماعية سياسية للسيرة النبوية. المركز المصري لبحوث الحضارة. 2001(نقلنا عن نسخة ألكترونية).