Atwasat

حفلة التيوس*

سالم العوكلي الأحد 19 أكتوبر 2014, 12:54 مساء
سالم العوكلي

شهر يوليو 2011 تركت العمل بصحيفة ميادين وذهبت محبطا إلى درنة، لم أخبر أحمد الفيتوري بذهابي، وكالعادة تركته داخل معمعة العمل الصحفي وحيداً، وكنت أعرف أن ميادين ستستمر، وستكون أفضل، طالما وراءها صحفي بقامة أحمد، الذي استفدت من خبرته الكثير أثناء هذه الشهور القليلة. عارك الفيتوري ومن وقفوا معه وعلى رأسهم السيد خليل العريبي، واستمرت ميادين جريدة مميزة، إن لم أقل أنها المؤسسة الإعلامية الأبرز التي توحي بأن ثمة تغييرا حدث في ليبيا.

وأخيرا توقفت ميادين وفقدها قراؤها المتابعون لها، وفي صحراء مثل هذه عادة ما تموت أجمل النبتات دون جريرة.

الحديث عن جريدة ميادين يحتاج إلى وقت آخر ومزاج آخر، ولكن ما أريد قوله أني حينما ذهبت إلى درنة اتصل بي الفيتوري، فقلت له: خلاص يا فيتوري يبدو أن ليبيا فيها 5 مليون معمر القذافي. كنت منفعلا، والتعميمات القاسية عادة ما تكون ثمرة الانفعال السامة. قال لي الفيتوري بسرعة بديهته، وبلهجة لا تخلو من تهكم: تعال .. جميل أن تكون وحدك في مواجهة 5 مليون معمر. وبالطبع كانت هذه الجملة تحمل معنى آخر مضمرا، ومثل هذه المعاني المركبة في جملة الفيتوري هي ما يميز كتابته. وكأنه أراد أن يقول لي: طالما أنت الناجي الوحيد من عدوى القذافي فجميل أن تقاوم هذه العدوى بمفردك، أو بمعنى آخر، هل لديك يقين أنك لست قذافي تنضاف إلى الخمسة مليون؟.

أحسست ببعض الحرج مما قلته، لكن سرعان ما تبع هذا الحرج نوع من التأمل في الوقائع التي أفضت بي إلى هذا الإحباط وإلى هذا التعميم المخل.

طيلة الأشهر التي قضيتها بين بنغازي ودرنة والقاهرة، لإصدار الأعداد الأولى من ميادين، كنت أتابع، كلما سنحت الفرصة، بعض الندوات التي تقيمها مؤسسات ثقافية، أو الحوارات في القنوات الليبية التي تناسلت كالجراد، وأطلع على بعض الصحف وأشباه الصحف التي تصدر آنذاك.

وكان يزعجني الخطاب الدارج الذي يحمل الكثير من جينات الأداء الإعلامي إبان النظام، وكان يزعجني الحس العالي بالرغبة في تصفية الحسابات والانتقام، وكانت تزعجني اللغة الأورويلية الركيكة التي تدار بها الندوات وتمتلئ بها الجرائد والفضائيات، وكانت تزعجني لغة التخوين والإقصاء والمزايدات، وكانت تزعجني خصوصا مفردة(الثوار) التي احتكرها الانتهازيون كي يكفروا عبرها الآخرين سياسياً ويقصوهم، وكانوا يزعجون الشعور الواثق لدى القادمين من الخارج بأنهم الطاهرون الناجون من التلوث الذي طال من بقوا في الداخل.

تحررت ليبيا وسقط النظام، وكان المسلحون يرعبون الشارع ببنادقهم وعرباتهم المسرعة، كما كان يفعل أعضاء اللجان الثورية.

جرت الانتخابات في ليبيا بشكل يعيد إنتاج التصعيد إبان النظام، ولا فارق سوى الصَبغة البنفسجية التي كان يتباهى بها الناخبون على أطراف أصابعهم، وزيّف الكثير من المرشحين هويتهم السياسية، وانتخبهم الليبيون على أساس أنهم مستقلون، ليظهروا في المؤتمر الوطني بعباءة الحزب الذي تعود لعقود على العمل السري.

وحين كنت أتابع جلسات المؤتمر الوطني، كنت أرى جلسات معادة لمؤتمر الشعب العام، وديكوراً مطابقا لا ينقصه سوى رفع اللوحات بدل رفع الأيادي.

فكان التكتل داخل قبة المؤتمر، وتزييف الحقائق، والكولسة الغبية، واستخدام العنف لإصدار القوانين والقرارات، والانفصال التام عن نبض الشارع والرأي العام، كان كل ذلك مطابقا لما يحدث في مؤتمر الشعب العام، خصوصا وأن القائد الملهم والمفكر الذي كان يحرك الجلسات بالريموت كونترول من بعيد، خَلَفه مفتتٍ ملهمٌ ومفكرٌ يحرك المؤتمر الوطني بريموت كونترول من بعيد.

وكل ذلك يشي بأن هذا التغيير الذي جاء مجرد تقليد لما يحدث عند جيراننا والذي اُخُتُرِق منذ شهوره الأولى من قبل كل مخابرات العالم، هذا التغيير لم ينبع من وعي اجتماعي ناقد للواقع وحامل لقيم جديدة، لكنه انبثق من حقد أعمى على مرحلة تاريخية، ولأنه أعمى حل محل النظام المسقط دون إمكانية أن يرى وجهه في المرآة.

الثورات الحقيقية تأتي كتتويج لنضج اجتماعي يحدث في طبقات المجتمع، ومن وعي حاد بأسباب الحراك وبالبدائل، لذلك أستسيغ كلمة تمرد وتكبر على نطقي كلمة ثورة، لأن طبيعة التمرد على السلطة تٌجلس المتمردين على نفس الكرسي المطاح به، بل تجعلهم أكثر بطشا وتنكيلاً لأنهم جاءوا محمولين على عقد تاريخية وغل لا يتوقف، وفوق ذلك بطش سائب لا خارطة له ولا خطوط حمراء، ولا رسن أخلاقيا أو حتى مصلحيا.

ذهب القذافي غير مأسوف عليه، لتلد الأرض الليبية القاحلة آلاف(القذافي)، يكملون ما بدأه؛ من تدمير للمؤسسات، والبنى التحتية، ومن تدمير لمعنويات هذا الشعب الذي عاش طيلة القرن في كنف الخوف وعدم الاستقرار.

يحكى أن لصوصا سرقوا قطيعا من الماعز واختفوا به في واد حتى يحل الليل، فأخذ التيس الهرم يلبلب بصوت عال ولا يسكت، فقال أحدهم علينا أن نذبح هذا التيس حتى لا يكشف مكاننا، فذبحوه، وحين ذبحوه برزت عشرات التيوس الصغيرة لتملأ الوادي لبلبة، وأدركوا خطأهم لأن هذه التيوس الفتية كانت ساكتة فقط لأنها خائفة من التيس الكبير، وتقول النهاية أنه تم كشف مكانهم والقبض عليهم واستعادة القطيع، ونهاية أخرى تقول أن هستيريا الخوف أصابتهم فأخذوا ذبحا في التيوس الصغيرةـ، ولأنهم منفعلون، والدم غطى عيونهم، لم تنج حتى الإناث من سكاكينهم. فأبادوا القطيع ومضوا في حال سبيلهم على أصوات عواء الذئاب الموعودة بوليمة دسمة.

مات الطاغية فملأ الطغاة الجدد أرضنا لبلبة.

لبلبة دون طحين، تنقلها الفضائيات على الهواء مباشرة لتملأ العالم برمته. وعبثا يحاول العالم أن يوقف النطاح، أو يسكت هذا الصخب التيسي الذي كشف ليبيا لكل طامع، ولكل الذئاب المتربصة.

ثمة نهاية أخرى للقصة يقترحها الحلم الإنساني؛ ستنتهي اللبلبة والتيوس واللصوص ويعود القطيع المخطوف** إلى ربيعه الأصلي بعد أن قرأ الدرس جيدا.

* حفلة التيوس، استنادا إلى رواية الكاتب البيروي، ماريو بارغوس يوسا، والتي ترصد مرحلة من حياة طاغية الدومنيكان، تروخيو، ونهايته التراجيدية.
** آسف لأن الاستعارة التي فرضها السياق أشارت إلى شعبي بصفة القطيع، ورغم ذلك أقول: سنظل فعلا قطيعا ما دمنا ننتظر الحلول من خارجنا، وما دمنا نحتاج إلى راع بعصاه يدير عيشنا.