Atwasat

ترحال:تحريرُ الألوان من تحريرِ الإنسان (مرّةً أخرى، دفاعًا عن السود والسواد في تونس)

محمد الجويلي السبت 18 أكتوبر 2014, 03:51 مساء
محمد الجويلي

كتبت طالبة ماليّة تُدعى «مريم توري» تدرس بتونس العاصمة وتقيم بها منذ ثلاث سنوات مقالاً بالفرنسيّة بتاريخ 12 أكتوبر2014، سرعان ما تناقلته وسائل الاتصال الاجتماعي، تتذمّر وتشكو فيه بمرارة ممّا تتعرّض له من ممارسات عنصريّة في تونس تطالها هي وأبناء جلدتها من أفارقة جنوب الصحراء الدارسين بهذا البلد. المقال هو عبارة عن رسالة موجّهة إلى التونسيين تخاطب فيها مريم ضميرهم الإنساني وتؤنّبهم في لهجة تجمع بين السخط والاستفزاز الإيجابي الذي تسعى من خلاله إلى استنهاض هممهم وتحريك عقدة الذنب في نفوسهم. بعد أن عرّجت على الفكرة المسبقة التي حملتها عن تونس قبل قدومها إليها باعتبارها «باريس أفريقيا» وبلد الحرية والكرامة والمساواة.

تعبّر توري عن أسفها الشديد لكون هذه الفكرة كانت تقنّع حقيقةً مرعبة وهي أنّ المجتمع التونسي تنخره عدوى العنصريّة البغيضة. وهذا ليس افتراء، كما تقول، وإنّما بالتجربة اليوميّة، بحيث لا يمرّ يوم إلّا وتناهت إلى مسامعها كلمات وأوصاف نابية جارحة وساخرة، لا لذنب اقترفته وإنّما بسبب لون بشرتها فقط: «كحلوشة، «قردة».... القضيّة لا تكمن، كما تضيف، في «كونه لا يمكن الحكم على شعب بأكمله من خلال ممارسات بعض الأشخاص» فهذا أمر بديهي، ولكن في صمت الأغلبيّة وتواطئهم. فعندما يقع الاعتداء أو التهكّم عليّ في وسيلة نقل عمومي، بسبب لون بشرتي، ولا يحرّك أحد ساكنا، هذا إذا لم ينخرط بعضهم في الضحك والسخرية منّي بتواطؤ مع المعتدي «ماذا يمكن أن أقول لكم يا معشر التونسيين؟ «تتساءل الفتاة الماليّة غاضبة حانقة. في بداية إقامتها بتونس كانت تتّهم الجهل كما تقول[أي عوام التونسيين] ولكنّها اليوم تصرخ لاتهام المثقفين التونسيين الذين يعلمون بكلّ مظاهر العنصريّة ضدّ السود في البلاد ولكنّهم لا يفعلون شيئا يُذكر لمقاومتها. نعم تؤكّد «أنا أتّهم المثقفين الذين يقولون لي واجهيهم، أي العنصريين، ولا تخافي «. كنت أتمنّى ذلك. تجيبهم. ولكن لا أرغب في أن يدفع والدي في تونس بدلا من تكاليف دراستي ثمن إقامتي في المستشفى أو أن تفجع أمّي وتنتحب لوفاتي.

نجحت مريم توري برسالتها التي صاغتها في لغة فرنسيّة جميلة وببراعتها في الحجاج في استفزاز مشاعري وقلمي

نجحت مريم توري برسالتها التي صاغتها في لغة فرنسيّة جميلة وببراعتها في الحجاج في استفزاز مشاعري وقلمي، خاصة أنّها تتّهم المثقفين التونسيين بالتقاعس عن التصدّي لداء العنصريّة العضال الذي استفحل في مجتمعهم، وهو ما يحمّلني مسؤوليّة مباشرة للتفاعل مع ندائها واستغاثتها. ما تقوله توري ليس كذبا وافتراء، وإنّما هو حقيقة لا يرقى إليها الشكّ. فشعوب شمال أفريقيا، بصفة عامة، وليس تونس فقط، مازالت تنخرها العنصريّة ومصطلحات مثل «الخادم» في إشارة إلى المرأة السوداء و«وصيف» و«اعْبِيدْ» و«العزّي» دلالة على أسود اللّون من بني ملّتنا وأوطاننا وقارتنا مازالت رائجة إلى اليوم. كذلك فإنّ اتّهام السود بالحمق والغفلة في أمثال مثل «رأي عبيد» والهتاف في مدارج كرة القدم في تونس سخرية من اللّاعبين التونسيين السود الذين كان بعضهم من لاعبي المنتخب الوطني ويُلقّبون في وسائل الإعلام بالجواهر السوداء «دكديكه آه دكديكه، يا وصيفة» وما شابه ذلك، أمر لا يمكن إنكاره. لا يمكن الإنكار كذلك أنّه في حين كان السود في ليبيا أوفر حظّا – مقارنة بتونس- في الصعود في السلّم الاجتماعي وزراء ومسؤولين كباراً في الدولة وقواداً في الجيش ووجهاء في المجتمع الليبي (أستحضر الآن، على سبيل المثال لا الحصر، جمعة الفزّاني وأبو بكر يونس جابر عضو مجلس قيادة الثورة الذي شغل منصب وزير دفاع القذافي ثم رئيس الأركان لأربعين سنة وقضى نحبه معه) دون أن يعني ذلك أنّهم لا يتعرّضون إلى اليوم لمعاملات عنصريّة، مثلهم في ذلك مثل بلدان المغرب الكبير الأخرى، فإنّ جلولي فارس، رئيس أوّل مجلس دستوري في تونس بعد الاستقلال، قد رفض تعيين معتمد (حاكم مدينة) على بلدته الحامة لمجرّد كونه أسود اللون وخلعه في أربع وعشرين ساعة، رغم أنّه رجل مربّ ومدرّس وقد تقلّد بعد هذه الحادثة مناصب إداريّة أخرى آخرها، على حدّ علمي كاتب عام إحدى الكلّيات العريقة في الجامعة التونسيّة، وهو حيّ يُرزق ويمكن أن يشهد بذلك.

وفي حقيقة الأمر ظلّت هذه العنصريّة من المسائل المسكوت عنها في شمال أفريقيا بصفة عامة وبدرجات متفاوتة من بلد إلى آخر وكأنّ شيئا لم يكن وغير جدير بالاهتمام، وكانت سياسة السلطات القائمة تغطّي «الشمس بعين الغربال» كما يقول المثل الشعبي ولا تعير المسألة حقّها من الاهتمام ولم تلعب المدرسة دورها في توعية الأجيال. وأذكر أنّه في بداية الثمانينات من القرن الماضي كنّا قد درسنا في برنامج التاريخ في آخر سنة لنا بالثانويّة العامة في تونس العنصريّة ضدّ السود في أمريكا ومآثر مارتن لوثر كنج في مقاومتها، كما درسنا في مادة الإنقليزيّة عنصريّة نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا ومآثر مانديلا، القابع آنذاك في السجن، في حين كان من الأجدر أن ينبّهنا أساتذتنا للعنصريّة المعشّشة في ثقافتنا وفي حياتنا اليوميّة، عوض البحث عنها في أماكن قصيّة وكأنّها ظواهر غريبة عنّا وموجودة في كوكب آخر. ولكن سياسة السلطات كانت تعتمد على حجب الحقائق في كلّ شيء بما في ذلك في المسائل التي تتعلّق بالعنصريّة ليس فقط ضدّ سود البشرة وإنّما في شتّى مظاهرها وهي كثيرة: القبليّة والجهويّة وعنصريّة المدن ضدّ الأرياف والتهكّم على لهجات أهلها من الناطقين بالقاف البدويّة والريفية[ g] التي تحوّلت لدى البعض من المسرحيين المهرّجين في تونس إلى مادة للتندّر والسخرية والإضحاك وغيرها من المظاهر العنصريّة التي نمارسها في بلداننا، وسرعان ما نستنكرها عندما نصبح نحن البيض من شمال أفريقيا ضحايا لها باعتبارنا عرباً وبرابرة ومسلمين، كما هو الحال في فرنسا وأوروبا بصفة عامة.

مريم توري على حقّ عندما تتّهم المثقفين التونسيين. أوّلهما بورقيبة الحقوقي والمثقّف وأوّل وزرائه للتربية الأديب الكبير محمود المسعدي الذي سنّ بهدي منه السياسة التعليميّة في تونس ووفّقا في ذلك إلى حدّ بعيد في اجتثاث القبليّة المقيتة ولكنّهما لم يفعلا الكثير في البرامج الرسميّة لاجتثاث العنصريّة (ضدّ السود خاصة) والجهويّة من الأذهان. وكنّا نعتقد أنّه بعد أربع سنوات ممّا اصطلح عليه بثورة الكرامة أنّه سيقع الالتفات لكلّ أنواع العنصريّة ومحاربتها بكلّ حزم، ولكن شيئا من هذا لم يحدث ويتواصل تواطؤ المثقفين إمّا بالصمت أو باجترار مقولات الأيديولوجيا السائدة وتسمياتها الحاضنة للعنصريّة.

عندما نسمّي الأشياء ونطلق عليها النعوت والصفات نؤسّس رؤيتنا للإنسان والعالم

العنصريّة تبدأ في اللّغة وفي التسميات. عندما نسمّي الأشياء ونطلق عليها النعوت والصفات نؤسّس رؤيتنا للإنسان والعالم، وهذا من ألفبائيات الفلسفة السياسيّة وما على من يرغب في معرفة أعمق إلا أن يتصفّح فصل «في الكلام» لتوماس هوبز في كتابه «التنّين» (Leviathan ) وهذا ما نبّهت إليه مخاطبا المنصف المرزوقي المثقّف والرئيس السابق لمنظمة حقوق الإنسان قبل أن أخاطب فيه رئيس الدولة في رسالة ثانية وجّهتها إليه نشرتها صحيفة الصريح التونسية منذ أشهر بعنوان أحمر قان «سيّدي الرئيس كفى السواد ظلما فتحرير الألوان من تحرير الإنسان» أدعوه فيها إلى الاعتذار للسود والسواد والتراجع عن إلصاق صفة السواد بالكتاب الذي أصدرته رئاسة الجمهوريّة التونسيّة بعنوان «الكتاب الأسود» الذي وضعت فيه كلّ من اعتبرتهم فاسدين من كتّاب وإعلاميين وفنّانين تلطّخوا بالتعامل مع نظام ابن علي البائد بعد أن يئست من الردّ على رسالتي الأولى التي وجّهتها إليه على صفحات جريدة الشروق بعنوان «السواد ضحيّة الكتاب».

قلت له من جملة ما قلت له وما كنت لأعيده على مسامعه مرّة ثانية وأخيرة، لا سيما وأنّه يتأهّب لخوض غمار الحملة الانتخابيّة الرئيسيّة هذه الأيّام ليجدّد العهد مع كرسي قرطاج، لولا «مريم توري» واتهامها للمثقفين التونسيين بالصمت وماهم بصامتين كلّهم، لعلّه يستمع إليّ هذه المرّة «ليس هدفي هو تعداد هفواتك ولكن هفوة كبيرة دعوتك إلى الاعتذار عنها كما كان دأبكم في الاعتذار، الاعتذار للسواد والسود ولكن ذلك لم يحصل. أذكّرك والذكرى تنفع الرؤساء من المثقفين أنّ الثورة قد اندلعت لتحقيق كرامة الإنسان وكذلك لتحرير الألوان: تحرير البنفسج (اللون المحبّذ لابن علي الذي كاد يطغى على اللون الأحمر لعلم تونس) من الاستبداد[وتحرير اللّون الأخضر لون الخصوبة والنماء من سطو القذافي عليه] وتحرير الأسود من كلّ ما عَلِق به ظلمًا من الأدران بريطه، ما عدا في الحجر[ الأسود] والكعبة وفي عيون النساء، بكلّ ما هو سلبي وقبيح وغير شرعي. كنت أتمنّى، خاصة وأنّ مانديلا أبوك الروحي كما تقول أن يكون لنا على الأقلّ لأوّل مرّة في تاريخنا وزير واحد أسود اللون وأن نرى على قنواتنا التلفزيونية رجالاً ونساء من أبناء جلدتنا سود البشرة فإذا بك تلصق السواد بكلّ من عمل وتواطأ مع النظام السابق فتقع تبعا لذلك في شرك الأيديولوجيا العنصريّة المهيمنة وترتكب حماقة اتنولوجيّة وحقوقيةّ كبرى كنت بنفسك أحد ضحاياها. هل تعلم وهذا ما حدث أمامي أنّه لإبراز أفضليّة بورقيبة عليك في كلّ شيء قارن بعضهم عينيه الزرقاوين بعينيك السوداوين ولون بشرته الشديد البياض بلون بشرتك الأدميّ الذي يميل إلى السواد؟».

لم يتحرّك الرئيس المثقف وجهازه الإعلامي المشغول بقضايا الماضي، عوض قضايا الحاضر والمستقبل، الذي يُقال اليوم في تونس إنّه ضالع واللّه أعلم بالتمويل السخيّ لفيلم عن فساد ابن علي بُثّ على قناة «م6» الفرنسيّة الأسبوع الفارط علمًا وأنَّ التونسيين كلّهم على علم بفساد ابن علي وليسوا في حاجة الآن إلى أفلام إضافيّة لمعرفة ذلك- للردّ والاعتذار، إمّا لعدم كفاءة هذا الجهاز ووعيه بخطورة المسألة أو لأنّه يعتبر إلصاق السواد بالفساد من المسلّمات، وهذا أخطر بالطبع.

المثقفون التونسيون، كما تصرخ الفتاة الماليّة، مسؤولون إمّا بالصمت وإمّا بالغفلة وعدم الانتباه إلى اللّامفكّر فيه والمسكوت عنه. قضايانا الأكثر حساسيّة مازالت تُثار في الغرب وجامعاته ومراكز بحوثه. فقد أصدر المركز الوطني للبحوث العلميّة في فرنسا، وهو أهمّ مركز أكاديمي حكومي فيها، عددا خاصة في مجلّة المغرب الكبير ( La Maghreb) لسنة 2012 حول ما سمّاه «الربيع العربي بوصفه ثورة في العلوم الاجتماعيّة» كتبت فيه ستيفاني بويسال ( Stéphanie Pouessel) مقالاً بعنوان «الهوامش الصاعدة: الأمازيغ، اليهود والسود: ما غيّرته الثورة في هذا البلد الصغير المتجانس بامتياز الذي اسمه تونس» تعرض فيه مطامح السود التونسيين في الكرامة والعدالة والحرية. المقال فيه أخذ وردّ ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّه في حين ينشغل الجامعيون والمثقفون في الغرب بقضايانا الحارقة والأكثر حيويّة بالبحث والتفكير، ينشغل رهط من المثقفين عندنا والجامعيين الموكول إليهم البحث في حلول لمشاكلنا الاجتماعية في هذه المرحلة المفصليّة من تاريخ «الربيع العربي» مثل أساتذة الاجتماع والتاريخ والإنسانيات باللّهث لوراثة مسؤولي الاستبداد وملء الكراسي والوظائف الشاغرة والتمتّع بامتيازات السلطة. وهذا موضوع سوسيولوجي آخر بامتياز.