Atwasat

عراجين الشرعية

سالم العوكلي الخميس 25 سبتمبر 2014, 09:40 صباحا
سالم العوكلي

لقد عشنا، إبان النظام السابق، عقدًا كاملاً في ليبيا دون أن نعرف الموز الذي توقف استيراده ضمن برنامج ترشيد الإنفاق، وكبر جيل من الأطفال لم يعرفوا شكل ومذاق هذه الفاكهة الاستوائية المحببة لليبيين، وغير الممنوعين من السفر الذين يزورون دولاً أخرى يحضرون صورًا لهم بجانب عراجين الموز المتدلية في أسواق الدول المحظوظة، أو وهم يلتهمون هذه الفاكهة، ليتباهوا أمامنا. فجأة في نهاية العقد حضر الموز بكميات كبيرة، وأصبح يوزع في الجمعيات الاستهلاكية بالصناديق، وطغى مشهد المواطنين الذي يحملون صناديق الموز في الشارع على كل شيء، امتلأت الشوارع بالكراتين الفارغة، والأرصفة بقشور الموز، وغدا مشهد تزحلق المواطن أو المواطنة على الرصيف وسقوطهما مشهدًا مألوفًا. بعض الأطفال الذين كبروا في غياب الموز، ولم يتعرفوا عليه، يقال، والعهدة على الراوي، إنهم بدأوا يأكلون القشرة ويرمون اللب، وكان بعض الموز يأتي أخضر وغير ناضج فاكتشف الليبيون فكرة تغطيته بالبطاطين في وقت كانت فيها أزمة بطاطين في السوق، وصار مشهدًا مألوفًا أن ترى العائلة دون غطاء لأن الموز غير الناضج يحتكر الأغطية، وفي النهاية فرح الليبيون بعودة الموز فرحًا غامرًا للدرجة التي سموا فيها سنة عودته(عام الموز). هذه ليست خرافة لكنها إحدى حكايا ليبيا وما أكثرها من حكايا.

سقط النظام وهو يصرخ لآخر لحظة في عمره بأنه صاحب الشرعية الوحيدة

منذ قرار تجميد الدستور الليبي القائم، العام 1969، لم نعرف في ليبيا أي نوع من الشرعية، ذاك الدستور الناقص الشرعية كما ينتقده الباحثون عن كمال المظهر الديموقراطي، فلجنة الستين التي صاغت الدستور الملكي غير منتخبة، ودستورها المقترح لم يستفتَ عليه، وعشنا في هذا المكان المنسي من العالم عقودًا دون دستور، وكانت الشرعية الوحيدة الحاكمة هي شرعية القوة، الشرعية الثورية، شرعية الاستيلاء على السلطة بالسلاح، وشرعية القيادة الملهمة التي تعرف جيدًا ما يريده الناس أكثر حتى مما يعرفونه عن رغباتهم، وانقاد الليبيون دون أن يخفت هتافهم وراء قيادة تاريخية مرغمين على القبول بها، لا يملك البعض سوى الدعاء لها بالهداية، والبعض الكثير يهتف لها (زيد تحدى زيد)، والبعض يعتبرها عقابًا عادلاً بسبب ما فعلناه مع الملك الورع في آخر سني حكمه، والقلة القليلة المعارضة تقاسمتها المشانق والسجون والمنافي.

سقط النظام وهو يصرخ لآخر لحظة في عمره بأنه صاحب الشرعية الوحيدة، وأن شرعيته منبثقة من سجله الثوري، ومن كونه صمام الأمان لهذا البلد ووسيلة استقراره الوحيدة، مهددًا في حال زواله بالويل والثبور لنا، بالحرب الأهلية، وبتقسيم ليبيا، وبسيطرة التيار الراديكالي، وبفقدان النفط والغاز والعودة إلى استخدام الحمير كوسيلة مواصلات.

شرعية توفير الأمن والأمان للمواطن استمدها النظام من أربعة عقود من الحكم خارج الشرعية أسس خلالها دولة أمنية، مهمتها حماية النظام فيطال رذاذها الأمني حياة المواطن الطفيلي، أو ما يمكن أن نسميه أمن الخوف.

منذ قرار تجميد الدستور الليبي القائم، العام 1969، لم نعرف في ليبيا أي نوع من الشرعية

نتيجة لفراغ الشرعية الذي عاشته ليبيا منذ تأسيسها، أو لالتباس مفهوم الشرعية الذي عشناه طيلة أربعة عقود أصابت الليبيين بعد سقوط النظام هستيريا، أستطيع أن أسميها هستيريا الشرعية. فترددت هذه المفردة بشكل ببغائي وغدت علكة كل الحوارات، ولازمة في جل العناوين الصحفية، وفي نشرات الأخبار، وفي التظاهرات، وحتى في ألعاب الأطفال. ونتيجة العطش التاريخي للشرعية، والفرح الغامر بسقوط نظام مَنَع الشرعية لزمن طويل، غدا كل شيء بعد فبراير شرعيًا، فالتشكيلات المسلحة المشكلة من مدنيين تدعي الشرعية، ومن جاءوا من الخارج هم أصحاب الشرعية، والذين عانوا في الداخل يقولون هم أهل الشرعية، ومن سموا أنفسهم (الثوار) يدعون أنهم أصحاب الشرعية الوحيدة، والمدن الأكثر تضررًا أو مقاومة تقول إنها صاحبة الشرعية، والسطو والسرقة والتعذيب يتم ضمن الشرعية، وحتى الاغتصاب بعد فبراير يتميز بكونه اغتصابًا ضمن الشرعية. العطش التاريخي إلى الشرعية جعل لنا في الوقت نفسه ثلاث حكومات كل منها يدعي الشرعية، وجعل لنا سلطتين تشريعيتين تتنازعان الشرعية.

أو بمعنى آخر ملأت كراتين الشرعية الشوارع وقشورها الأرصفة.

وبالطبع الحديث عن الشرعية في بلد يفتقد إلى أدنى مقومات الدولة، وما زال دستوره قيد الإنجاز يغدو حديثًا ملتبسًا، لذلك، ولأننا ما زلنا خارج هذه الثقافة، وما زلنا مصابين بعدوى أربعين عامًا من الشرعية الوحيدة، شرعية القوة، فلا عجب أن تعود لنا وبأشد ضراوة ما يسمى الشرعية الثورية، أو شرعية حماة الثورة، لأنها الثقافة الوحيدة والخبرة المتاحة التي نملكها، ولأن هؤلاء هم تلاميذ المرحلة النجيبون الذين تربوا تحت هتاف (نحنا جيل بناه معمر واللي يعادينا يدمر).

ولكي تصبح الشرعية الثورية هي الشرعية الوحيدة عليك أن تلغي الدولة ومؤسساتها وقوانينها، وأن تحيلها إلى هلام سياسي، تصبح فيه الشعارات هي القوانين النافذة، وهي الدستور، وهي الخطط الاستراتيجية. هذا ما فعله النظام ليبقى كل هذا الزمن، وهذا ما يحدث الآن وبشكل أكثر ضراوة، وهذه الضراوة الشديدة، سببها عطش شديد للشرعية، ناتج عن مسيرنا الشاق طيلة عقود في صحراء سياسية قائظة.

الفرحة بعودة الشرعية كالفرحة بعودة الموز إلى الوطن، الجيل الذي كبر وترعرع في غيابها سيأكل القشرة ويرمي اللب، والجيل الأكثر خبرة سيغطي الشرعية غير الناضجة بالبطاطين وينتظر نضوجها في صقيعه السياسي دون غطاء، وربما غير الممنوعين من السفر، حسب حالة المطارات الليبية الآن، سيسافرون ويعودون لنا مع صورهم بجانب عراجين الشرعية في الدول المحظوظة.

هذه الهستيريا، وما ذٌكر أعلاه، يمكن تطبيقه على مصطلحات أخرى دخلت قاموسنا على حين غفلة؛ مثل الشفافية والدولة المدنية، والتعديل الدستوري، والديموقراطية، والحوار، وغيرها، غير أنه بعد فبراير، وعلى هامش هذه المصطلحات الرومانتيكية، خرجت علينا أيضًا اصطلاحات جديدة، ما كنا نتوقع أن تدخل قاموسنا الوطني، مثل؛ الحرب الأهلية، والنازحين، في الخارج والداخل، والمهجرين، والجثث مجهولة الهوية، والقصف العشوائي للأحياء السكنية، وغيرها، وهي الاصطلاحات التي نمضغها بمرارة، تم إنتاجها وتمثيلها في الواقع بجدارة ونجاح، وكأنها تتمتع بخبرة سياسية طويلة وتمرس اجتماعي قل نظيره.