Atwasat

ترحال: ارحل... مرّة أخرى!

محمد الجويلي الخميس 25 سبتمبر 2014, 09:29 صباحا
محمد الجويلي

لثلاث سنوات مضت كان لفعل رَحَلَ (في صيغة الأمر) مفعول السِحر لدى بعض الشعوب العربيّة المنتفضة على حكَّامها. ارحل، الفعل المفتاح للثورات العربيّة، لم يوجّه إلى ابن عليّ ومبارك وعلي عبد اللّه صالح وبشّار، فقط، وإنّما إلى مرحلة كاملة من التاريخ المعاصر لحكومات مشتقّة، ويا للمفارقة، من الجمهور والجماهير: كيانات مستبدّة نشأت بعد رحيل الاستعمار وتحوَّلت إلى كيانات مافيوزيّة لَفَظَتها هذه الجماهير التي اشتقّ اسمها منها ورفعت في وجهها كارتون «ارحل» الأحمر وطردتها من السلطة.

غير أنّ فعل «رحل» في صيغة الأمر سرعان ما انكسر وجُرَّ جرًّا وسُحل في الساحات انتقامًا وتشفّيًا منه بمجرّد أن أنجز مهمّته الأولى، وليست الأخيرة، حين امتطى راحلته انتهازيو الثورات وهم أخطر بكثير من انتهازيي المرحلة التي سبقتها: هم كثر بعضهم امتشق سيفه بل «كلاشينكوفه» قادمًا من العصور الوسطى من حرب داعش والغبراء، والآخر استفاق مثل أهل الكهف من موقعة صفّين رافعًا المصاحف على الرّماح والآخر لا يملك من الحداثة والعلمانيّة شيئًا ما عدا عدائه لأخونة الدولة التي يقنّع بها لعابه السائل للسلطة في ذاتها ولذاته ولا لذوات الآخرين، والقائمة تطول ولا يسمح السياق بسردها كلّها.

رحل يعني الانتقال في المكان وهو ما تتفق عليه كلّ المعاجم العربيّة قديمها وحديثها

ارحل في حاجة إلى أن ترحل مرّة أخرى وتمتطي راحلة جديدة توصلها إلى دهاليز الكهوف العربيّة التي تكدّست فيها طبقات متراكمة من التخلّف الفكري والذهني والمكبوتات والأحقاد والضغائن. فالقضيّة لا تتعلّق برحيل أشخاص: القذافي وابن علي ومبارك، ولا حتّى بشّار الذي لم يرحل بعد وقد لا يرحل- فقد رحل هؤلاء ولكنّ دار لقمان مازالت على حالها، بل ازدادت خرابًا وبؤسًا في انتظار الفرج بعد الشدّة- إنّما برحيل مكبوتات وأفكار وعقد دفينة أخطرها لا نراه بالعين المجرّدة لأنّه يقبع داخل الإنسان فردًا فردًا وجماعة جماعة ويلتبس به التباس الجسد بالروح وليس من السهل ترحيلها. أنا مشفق على هذا الفعل العظيم الذي له في أذني مفعول النغم الجميل وما انفككت أفكّر فيه لسانيًّا وإنتروبولوجيًّا.

رحل يعني الانتقال في المكان وهو ما تتفق عليه كلّ المعاجم العربيّة قديمها وحديثها من «لسان العرب» لابن منظور وصولاً إلى «منجد الطلاّب» والمعجم «الوسيط» وغيرها من المعاجم المشتقّة منه.

ويبدو أنّ هذا الفعل له جذورٌ في اللّغات السامية القديمة في الآرامية والسريانية وانتقل إلى العربيّة والعبريّة كذلك واشتقّ منه اسم رحيل الذي كانت تسمّى به بعض النساء في الجنوب الشرقي التونسي قديمًا ولدى قبائل الغرب اللّيبي وفي واد سوف بالجزائر حسبما بلغني وهو الاسم ذاته الذي ينطق بشيء من التحريف في الإسبانيّة بقلب الحاء إلى خاء «رخيل» أو «راكال» كما نطقه العرب الذين قبل أن يغرموا بأبطال المسلسلات التركية المدبلجة إلى اللهجة السوريّة المنكوبة كانوا قد أغرموا «بركال» بطلة مسلسل مكسيكي أقام الدنيا وشغل الناس منذ عقدين من الزمان.

رحيل اسم انقرض أو يكاد في الجنوب الشرقي لتونس ولا أعرف إنْ كان هذا هو حاله في ليبيا وجنوب الجزائر مع جملة من الأسماء النسوية الأخرى كنوّة وامطيرة وزيتونة وأحوازة (أي غابة الزيتون) ووبرة (من وبر الإبل).

كانت جدّة أمّي تُدعى رحيل وقد عرفتها طفلاً كما عرفت امرأة أخرى من أقاربي تدعى رحيل وقد توفيتا الاثنتان رحمهما اللّه. لا أعرف إن كانت هناك امرأة مازالت على قيد الحياة في هذه المنطقة الممتدّة بين الجزائر وليبيا وتونس تسمّى رحيل، أمّا لدى بنات جيلي وما بعده فأكاد أجزم أنّ لا وجود له فقد عوضته أسماء المسلسلات المصريّة ثمّ المكسيكيّة والتركيّة ومَن يدري فلعلّ منّا من العرب قد استعار اسم ركال المكسيكيّة لابنته وقد يندم اليوم لمعرفته أنّه اسم بدوي عربي عجائزيّ تجاوزه التاريخ!

اعتقدت، ومازلت، ولا أظنني أبالغ في ذلك أنّ «رحيل» هو أحد أسماء النساء عند العرب مع ليلى بالطبع- وكان لي اهتمامٌ قديمٌ بليلى وهو اسم يتهدّده الخطر في تونس في مقال آخر كنت قد كتبته منذ مدّة- الأكثر رومانسيّة وجمالاً وحداثة رغم عزوف المسمّين عنه اليوم، لقد اختصّت به قديمًا بعض القبائل الرحَّل في المنطقة الممتدّة بين مدنين وتطاوين وبنقردان (في تونس) وصولاً إلى الجميل ورقدالين والعجيلات في ليبيا مرورًا بقبيلة الصيعان فجاء معبِّرًا عن نمط عيشها برمّته لا عن مظهر واحد من مظاهره.

«رحيل» اسم يختزل أمل أهل مَن سمّيت به في أن يحقّق لهم الرّحيل بحثًا عن الكلأ والعشب حياة سعيدة. في الرحيل سعادتهم وبالمسمّاة رحيل تكتمل هذه السعادة. هذا عن رحيل، أما عن الرحلة وهي من الاشتقاقات الأخرى لرحل نجد أنفسنا في صميم الرومانسيّة وليس في تخومها وفي علاقة مباشرة مع القضايا الإنتروبولوجية الحديثة «الآخرية» و«المغايرة» و«الاختلافية».

ألم يكن أدب الرحلة وهو أحد أهمّ أجناسنا الأدبيّة وأكثرها جماليّة وانتشارًا وكونيّة عينَ أسلافنا التي بصرنا بها غيرنا، هل كان بإمكاننا أن نعرف شيئًا منذ مئات السنين عن الصين والهند والسند وبلاد الزنج وأوروبا وأصقاعها البعيدة في بلاد القوقاز وروسيا لولا ابن بطوطة وابن فضلان وابن جبير وهل كان بإمكاننا أن نطّلع- وكنّا في سبات عميق- في القرن التاسع عشر عمّا يدور حولنا في أوروبا القريبة منّا من ثورة تكنولوجيّة وتنظيمات إداريّة وإصلاحات سياسيّة ونهضة وديمقراطيّة لولا الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق وخير الدين التونسي والسنوسي ورحلته الحجازيّة؟!

«رحيل» اسم يختزل أمل أهل مَن سمّيت به في أن يحقّق لهم الرّحيل بحثًا عن الكلأ والعشب حياة سعيدة

لكلّ هذه الأسباب التي ذكرتها والتي لم يتسنّ لي ذكرها كان شيء ما يعتمل في داخلي يدعوني إلى رفض ترجمة كلمة ديقاج (Dégage) الفرنسيّة التي أمر بها بعض التونسيين ابن عليّ بالتنحّي عن السلطة وطرده منها والتي ترجمها العرب بمَن في ذلك الثائرون في مصر واليمن وسورية تحت تأثير القنوات التلفزيونيّة بـ «ارحل» بما في ذلك قناة الجزيرة التي خصّصت حصّة عن «ديقاج» اجتهد فيها الصحفي بهذه القناة متعثّرًا أن يفكّك دلالات هذه الكلمة الفرنسيّة واستعمالها التونسي المخصوص ومحاولاً ترجمتها إلى العربيّة بــ «ارحل».

لو وقف الأمر عند حدّ هذه الحصّة وعند الجزيرة لما استدعى الأمر، لربّما، إثارة ترجمة «ديقاج» (Dégage) من جديد. أمّا وقد سَرَتْ «ارحل» سريان النار في الهشيم لنراها لثلاث سنوات مضت على لافتات المصريين في ساحة التحرير وبعد ذلك في اليمن وسورية وحتّى في العراق لطرد المالكي من السلطة ولا نعرف إلى أين هي راحلة في رحلتها الطويلة العسيرة والمتعثّرة، فإنّ الأمر يدعو إلى فتح ملفّ الرّحيل من جديد.

«ارحل» فيها دعوة إلى الانتقال في المكان بحثًا عن الكلأ والعشب، هروبًا من الجحيم و ليس إليه (الهروب إلى الجحيم عنوان لقصة من قصص القذافي في كتابه المعنون بـ «القرية القرية، الأرض الأرض، وانتحار رائد الفضاء وقصص أخرى)، بحثًا عن ملجأ أو معنى أو حقيقة وقد تستحيل الرحلة إلى وطن. قال محمود درويش يومًا «وطني حقيبة سفر» ولكنّها ليست طردًا أو إقصاء يُعثر عنه في اللّهجات العربيّة بأكثر دقّة وبلاغة. في الجنوب الشرقي التونسي أحسن ما يترجم ديقاج (Dégage) «اذهب» وتقال للإنسان كما للحيوان وخاصّة الكلب السائب، يطرد الكلب كذلك بـ«تت» وفي بعض المناطق من الخليج فأحسن ما يترجمها هو «انقلع» أو «انزلع» حسب الجهات، كما يطرد القط بـ «كِسْ» في تونس كلّها مع المعذرة لأهلنا في الشرق والخليج، لأنّها تعني عندهم ما لا تعنيه عندنا، ولا بدّ أنه يوجد في الشام وفي اليمن وفي السودان وفي مصر في اللّهجات المحلّية ما يترجم «ديقاج» بأكثر دقّة.

«ارحل» فيها دعوة إلى الانتقال في المكان بحثًا عن الكلأ والعشب، هروبًا من الجحيم و ليس إليه

غير أنّ الفعل الفرنسي (Dégager) المصرّف في الأمر مع ضمير المخاطب «أنت» (Dégage) له الكثير من الدلالات ويكفي الواحد منّا أن يفتح معجم (Le petit Robet) للاطّلاع على مادته، وإحدى هذه الدلالات الأقرب إلى سياقنا هو التخلّص ممّا أصبح وجوده مقلقًا، مزعجًا أو ثقيلاً بما في ذلك، كما يقول هذا المعجم مثلاً، الأشياء التي توضع على الطاولة وتحول بيننا وبين الكتابة! أو ما يمنعنا من المرور في الطريق العام، ويمكن هنا أن نجتهد ونسوق مثال الاعتصامات وحتّى الميليشيات المسلّحة أمّا ديقاج (Dégage) أو Dégagez مصرّفة مع الضمير المخاطب أنتم فهي تعني فقط الدعوة إلى مغادرة المكان وهو ما لا يعبّر حقيقة عمّا أرادت الجماهير العربيّة الثائرة التعبير عنه من «ارحل».

الفرنسيون أنفسهم عندما يريدون التعبير عن أمر شبيه بسياقنا لا يستعملون ديقاج (Dégage) وإنّما كاستوا (Casse-toi) أي «انكسر» حرفيًّا وقد استعملها ساركوزي نفسه عندما كان رئيسًا ورفض مواطن فرنسي مصافحته قائلاً له وفي غضب وقد خُدش في كبريائه ووجاهته الرئاسيّة» casse- toi pauvre conومعناها «اذهب أيها الغبيّ» أو على وجه الدقّة وفي ترجمة حرفيّة «انكسر أيّها الغبيّ» وفي ترجمة عربيّة خليجيّة «انقلع أيّها الغبيّ» وفي ترجمة أكثر حرفيّة «انكسر أيّها الخنزير البائس»!

ما يهمّ غالبيّة العرب الذين عرفت بلدانهم الانتفاضات الأخيرة ليس بكلّ تأكيد ما يشغل بال المختصّين: التحليل اللّساني والإنتروبولوجي لفعل الرّحيل، وإنّما مضامينه السياسيّة. إنّهم يريدون للرحيل والرحلة أن تكون شاملة لا تتعلّق بأشخاص فقط كان ينبغي أن يرحلوا بالطبع لأنّ صيرورة التاريخ قد حتّمت ذلك ولا لأشخاص جاؤوا بعدهم، جاءت بهم الصدفة في غفلة من التاريخ، وللتاريخ كذلك غفواته وحوادثه العارضة وقد لا يختلفون عنهم في شيء، هذا إذا لم يكونوا أكثر منهم تعاسة وبؤسًا وإنّما بالخصوص أن لا يظلّ هذا الترحال يحوم في السطح دون الولوج إلى الأعماق... إلى الكهوف المظلمة من الوعي العربي الشقيّ والمأزوم.