Atwasat

عجب في ساحل الذهب

محمد عقيلة العمامي الأربعاء 24 سبتمبر 2014, 11:35 صباحا
محمد عقيلة العمامي

دعا الغاني الميكانيكي (دوكو)، صديقي داوود إلى وجبة غداء بمطعم شعبي صغير، أنيق، ونظيف، اسمه الكلب الأبيض! وهو من أفضل مطاعم الأسماك بميناء الصيادين في (أكرا). لحقت بهما، كانا يتناولا وجبتيهما على (البار) مباشرة أمام الطاهي الزنجي العملاق، ذي الوجه الضاحك بأسنانه اللؤلؤية، الذي بادرني قائلاً، فيما كان يضع أمامي المفرش الأبيض ويضع منديلاً يلف شوكة وسكينا: «هاها! أهذا هو رفيقكم الثالث، الذي قلتما إنه يجيد طهي الأسماك؟ حسنًا، أيها الشيف الليبي الخطير، ليس هناك مَن يطهو هذا الكائن مثلي! وعليك أن تتناول ما أعده أمامك وتشكر الله أنك جئتني، وبمقدورك أن تقتبس الوصفة، وتتباهى بها أمام أصدقائك». هكذا قال ضاحكًا، وهو يرفع (ستاكوزا) ما زالت قوائمها تتحرك، ثم وضعها في ماء يغلي وتركها، فيما وضع المقلاة فوق لهب النار، وتركها قليلاً قبل أن يضع مقدارًا بسيطًا من زيت الذرة، وألحقه بثلاثة فصوص من الثوم وقرني فلفل أحمر وشرائح، كأعواد الثقاب، من الزنجبيل الطازج، ثم وضع ثلاث حبات طماطم ناضجة في الخلاط: «أجججج» ثم اسكته.

وقبل أن تحمر حبات الثوم سكب عصير الطماطم، وأضاف قليلاً من الفلفل الأبيض وبعض الملح، وترك الخليط على نار هادئة. أخرج الستاكوزا، قسمها من بطنها، بساطور صغير، سحب هبرها الأبيض، وقطعه قطعًا متوسطة الحجم، وأضافها إلى الصلصلة، وأخفض اللهب، قبل أن تنضج بقليل، قال: «بنج.. بنج» وهو يرش الكرافس المبشور. وقدَّم لي الطبق بعد أن أضاف إليه الأرز البسمتي الأبيضَ المصفر بفعل الزعفران! وقال: «إن لم تستمتع بالطبق، فهو على حساب المحل!»

كان داوود، طوال الوقت يسخر منه، ويؤكد له أنهم من دون الليبيين لن يجدوا عملاً، وأننا سوف نتعاقد على المئات من الصيادين والتقنيين، مساهمة من ليبيا في حل مشكلة البطالة في بلاده.

في الزاوية، قريبًا من (البار)، كان هناك عجوز شعر رأسه الأبيض، زاد من سواد بشرته المجعدة، وكانت قبعته الحمراء، معلقة على حافة مسند كرسي أصفر اللون، وبينهما منضدة بلون الكرسي فوقها زجاجات خضر.

كان يبدو، في ركنه، كلوحة تشكيلية، زاهية الألوان. كنت قد انهمكت في الطبق اللذيذ، ولم اهتم كثيرًا بالحديث، الذي كان يدور بين داوود والطاهي ودوكو. عدت من دورة المياه، مررت على الرجل العجوز، طلب مني أن أجلس. جلست، فقال لي: «أنا سمعت حديثك مع الطاهي وأحسست أنك مستنير إلى حد ما. حسنًا أريدك أن تخبر صديقك الصاخب، أن بلادي سنة 1952م بعدما تولى (نيكروما) أول وزارة غانية منح ليبيا التي استقلت آنذاك، وكانت فقيرة تمامًا، مبلغًا قدره 250.000 (مئتان وخمسون) ألف جنيه استرليني كهبة. (يعني لله في لله) وكنا دولة غنية، وإن كنا ما زلنا مستعمرين من قبل الإنجليز.. غانا لم تستقل تمامًا عن بريطانيا إلا يوم 6/3/ 1957م».

قلت له مشاكسًا: «يعني الهبة من بريطانيا» أجابني: «لا.. سنة 1952م مُنحنا ما يشبه الحكم المحلي».

بعد عودتي إلى ليبيا تأكدت مما قالة ذلك الزنجي العجوز، وعرفت أن غانا، كان اسمها حتى سنة 1957م «ساحل الذهب»، والعالم يعترف أنهم تأهلوا للاستقلال بسبب تقدمهم السياسي، حتى إن الجمعية العمومية لهم لا تختلف كثيرًا عن مجلس العموم البريطاني في سلوكهم، وأيضًا، في قيافتهم التقليدية من عباءة موشحة بالذهب وخيوطها الحمراء إلى الشعر المستعار! وصارت غانا أول دولة زنجية في الكومنولث.

سنة 1955م بلغ الدخل القومي لغانا، التي لم يزد عدد سكانها، آنذاك، على خمسة ملايين نسمة، ما قيمته 235 مليون جنيه استرليني، وكان متوسط الدخل للفرد 50 جنيهًا استرلينيًّا، وهو رقمٌ مرتفعٌ جدًّا بالنسبة لمقاييس ذلك الوقت، وكان المراقبون يتوقعون لها مستقبلاً زاهرًا، فقد بلغ عدد التلاميذ في تلك السنة 600 ألف، وهو رقمٌ يفوق عدد الكبار المتعلمين، وكانت أمور غانا تبشر بمستقبل بديع لولا تساهلهم إزاء الفساد العام، الذي أخذ أشكالاً عدة، أقلها ظاهرة الهدايا والهبات! ولقد انتبه مصلحو البلاد لمغبة هذا الداء ولكنهم فشلوا في القضاء عليه، فلقد تفشى حتى إن زعيمهم (نيكروما) أسقط، كما يقال، بسببه!

سنة 1988م كنت في أكرا عاصمة غانا، وشاهدت الفقر يتسكع في طرقاتها، ويسير مع مجاريها المنسابة مع تضاريس الشوارع الرئيسية فوق سطح الأرض، ورأيت طوابير من شباب متعلم تقنيًّا يتطلع أن يفوز بعقد ليعمل معنا! لقد ترك اللصوص خزائن بلادهم خاوية، وانتشروا بامتداد منتجعات الترفيه، والفنادق متعددة النجوم، ونوادي القمار في العالم، وقد التقيت بالكثير منهم، تمامًا مثلما ألتقي الآن، بين حين وآخر، بلصوص من بلادي ينتمون إلى العهدين السابق والحالي! فهل هذا يا ترى، مخطط (استعماري)؟ أم ثقافة الشبع بعد جوع؟ أم لعنة أفريقية؟ أم سوء الفهم للحرية؟ دعونا نرصد، ونعرف، ونعالج، ونضرب بيد من حديد، قبل أن تنساب مجاري مدننا في شوارعنا، ونصطف طوابيرَ، كعمالة تريد الهجرة، ولكنها لا تعرف شيئًا سوى حمل السلاح واستعمال أنواعه كافة. ترتدي قبعات صفراء، ومستعدة للعمل مع مَن يدفع أكثر!