Atwasat

ثقافة الاستبداد

عمر أبو القاسم الككلي الثلاثاء 16 سبتمبر 2014, 05:05 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

 لا تنشأ الأنظمة الشمولية المستبدة دون وجود ثقافة استبداد حاضنة. لابد أن تسود في المجتمع المعين، أو لدى نسبة لا بأس بها منه على الأقل، ثقافة التعصب وعدم الاعتراف بالآخر وعدم الاعتراف وحقه في الاختلاف في المعتقد والرأي والفكر، بحيث يتمكن المستبد من تعميم استبداده. والمعارضون لهذا النظام يعارضونه، في كثير من الحالات، ليس من أجل الحريات والحقوق العامة، التي ينبغي أن يتمتع بها الجميع، وإنما من أجل حرية توجههم الفكري والسياسي، تحديدا. فهم ليسوا ضد الاستبداد في حد ذاته وفي جميع تمظهراته، وإنما ضد استبداد محدد، فيكون الأمر صراعا بين استبداد واستبداد مضاد، وليس صراعا بين الحرية والعدالة، من جهة، والاستبداد، من جهة مقابلة.

الاستبداد متأصل في ثقافتنا وفي تاريخنا ومرحب به شعبيا في معظم الحالات، ومن الأدلة على هذا"الوجدان الاستبدادي" تلك العبارة التي تصف عمر بن الخطاب، الخليفة الثاني، بـ"المستبد العادل"! فالعبارة تحمل تناقضا فادحا وواضحا، ذلك أن الاستبداد والعدالة لا يجتمعان. فالعادل لا يكون مستبدا، والمستبد لا يكون عادلا. كان يمكن وصفه بالعادل الحازم أو الصارم أو الشديد أو الدقيق أو الثابت أو النقي، مثلا. لكن ما أسميناه بالوجدان الاستبدادي استمرأ هذا الوصف. كما أننا نسمع تعبيرات من مثل أن العراق كان يحتاج إلى شخص مثل الحجاج، ومؤخرا يردد الكثيرون أنه لا يمكن للعراق أن يستقر إلا تحت حكمِ مستبدٍ مثلِ صدام حسين.

العراق ليس أكثر انقساما من الهند، مثلا، التي تتعدد فيها الأديان من عبدة الفئران والقرود والثعابين والبقر إلى المسيحيين والمسلمين

ويعللون ذلك بكون العراق بمثابة فسيفساء من الأديان والطوائف والمذاهب والشعوب، متغافلين، في حماسهم هذا، عن أن العراق ليس أكثر انقساما من الهند، مثلا، التي تتعدد فيها الأديان من عبدة الفئران والقرود والثعابين والبقر إلى المسيحيين والمسلمين، وتتنوع وتتعدد فيها الأعراق واللغات والثقافات(يكفي القول أن بها 1652 لغة ولهجة، منها 23 لغة رسمية خاصة بالولايات)، ومع ذلك تشق الهند طريقها وتتطور وتشهد استقرارا( ليس دون بعض الاهتزاز في بعض الأحيان، بالطبع) أفضل بكثير من باكستان وبنغلاديش المتمتعتين بقدر كبير من التجانس. وما ذلك إلا لأن الهند انتهجت نظاما ديموقراطيا يتساوى فيه الجميع من الناحية الحقوقية.

ولا يقدح في هذا الوضعُ الدونيُ لبعض الطوائف، مثل المنبوذين، فهذا عائد إلى النظام الاجتماعي المتأصل، وليس إلى نظام الدولة. ومن الأدلة الخاصة بالحالة الليبية على تبطن ثقافة القمع هذا العداء الموروث للأحزاب الذي عمق مجراه معمر القذافي. والمعادون لوجود الأحزاب ينسون أن المجتمع الذي يخلو من الأحزاب هو مجتمع متخلف، بالضرورة.

المجتمع الذي تتواجد فيه الأحزاب قد يكون متقدما أو متخلفا، وثمة إمكانية لأن يتقدم. لكن المجتمع الذي يخلو منها متخلف حتما. ذلك أن المجتمع الخالي من الأحزاب يمثل مجالا خصيبا لهيمنة الصوت الواحد والرأي الواحد ويعادي حرية الفكر والرأي وتعدد الأصوات الذي لا تحدث حركة نحو الأمام بدونه. أي أنه، ضمنيا، يناصر الاستبداد.

فمثلما أن السلطة والمعارضة، ومجمل المجتمع أو الشعب، في الأنظمة الديموقراطية، يتحركون داخل منظومة ثقافة الحرية والديموقراطية والاعتراف بحق الاختلاف، كذلك تتحرك أنظمتنا السياسية القمعية وحكامنا المستبدون ومجمل رعاياهم داخل منظومة ثقافة القمع والاستبداد، النافية لحق الاختلاف والساعية إلى فرض الاتفاق بالقوة.