Atwasat

ترحال: الكرسي!

محمد الجويلي الثلاثاء 16 سبتمبر 2014, 03:53 مساء
محمد الجويلي

لعنة اللّه على الكرسي، هكذا تمتمت في قرارة نفسي في هذا الصباح الباريسي وأنا أهم بامتطاء قاطرة مترو الأنفاق متوجّها نحو الحي اللّاتيني مثقلا بهموم العالم العربي وظلماته التي ألقت بظلالها علي تتبعني كظلّي في مدينة الأنوار. رأيت كيف يتدافع الناس فيه أفواجًا من أجل حجز كرسي مريح تجنّبًا لرفس الأقدام وضربات المناكب والمرافق، هكذا عادتها قطارات الأنفاق في باريس السفليّة: كلّ الراكبين يلهثون فيها على كرسي في أوقات الذروة ذهابًا إلى العمل في الصباح الباكر وفي العودة منه مساء. تذكرت كتاب «إنتولوجي في المترو» للإنتروبولوجي الفرنسي مارك أوجي وملاحظاته حول التجربة الإنسانيّة في المترو التي اختزلها في توصيفه التالي «الفرديّة دون اتّصال والجماعيّة دون انعزال».

لعنت الكرسي هذا الصباح لا لأنّني لم أجد كرسيًّا شاغرًا ألتجئ إليه فقط وإنّما كذلك لأنّ فكري سرعان ما جال في وظائف الكرسي ورمزيته ودلالاته- لعلّه فعل ذلك بصفة لا واعية هروبًا من ازدحام الأجسام وتلاصقها- وقادني إلى التسليم دون أدنى شكّ بأن تدافع الراكبين من أجل الكراسي في مترو باريس ما هو إلّا صورة مصغّرة «للتدافع الاجتماعي»، تدافع النخب من أجل كرسي السلطة.

ولئن كان الكرسي وما زال سبب البلاء الذي تعيشه البشريّة بأسرها منذ فجر التاريخ حين انتصب بعضهم لحكم البعض الآخر أو الكلّ الآخر على الأصحّ وإدارة شؤونه والوصاية عليه، فإن مسؤوليته في مصائبنا القديمة والمعاصرة على حدّ السواء نحن العرب أعظم وأكثر جلاء. أ لم تندلع من أجل كرسي الخلافة الفتنة الكبرى في أربعين للهجرة بين علي ومعاوية وهي الفتنة التي تفرّق بسببها المسلمون إلى ملل ونحل متناحرة بحدّ السيف طيلة أكثر من عشرة قرون قبل أن يستفيدوا في السنوات الأخيرة من التكنولوجيا الحديثة لمزيد إبادة بعضهم البعض؟ ألا تُفسّر كلّ الكوارث التي حلّت بنا حديثًا بسبب الكرسي اللّعين؟ فماذا لو لم يتشبّث ابن علي بكرسي قرطاج تشبّث الرضيع بثدي أمّه وتركه لغيره هل كان سيحدث ما حدث من إراقة دماء وخسائر فادحة في الأموال والأرواح وهل كان لشرارة «.. العربي» أن تنبعث أصلاً من تونس لتزيل مبارك والقذافي عن كرسيهما.

كان يحلو للقذافي أن يسخر من الديموقراطية الغربيّة مفسّرًا على طريقته الخاصة باعتباره ليس فقط ملك ملوك أفريقيا وإنّما كذلك كبير الفيلولوجيين وعلماء اللّغة في العالم مزاحما دي سوسير وناعوم شومسكي في ذلك أنّ كلمة ديموقراطية التي يُجمع العالم على أنّها من أصل إغريقي ومتكوّنة من لفظين «ديمو» (الشعب) وكراسي(الحكم) أي حكم الشعب إنما تعني «ديمومة الكراسي»، هكذا كان يعتمد القذافي في تأويلاته اللّسانية على علم الأصوات «الفونولوجيا» الخاص به، فيستمع إلى صواتم الكلمة الإغريقية بأذن عربية «كراسي» تمامًا مثلما رأى في رؤيته الشهيرة في اللّقب العائلي للكاتب الانقليزي الشهير شكسبير(Shakespeare) الشيخ زبير أي فارس منحدر من الشرق الأوسط حلّ أجداده العرب في بريطانيا ملّاحة تجّارًا أو غزاة.

لعلّ هوسه بالكرسي إلى حدّ الجنون على عكس ما كان يردّده في خطبه هو الذي جعله يذهب في تأويل الديموقراطيّة هذا المذهب في التأويل وينتهي نهاية مأساويّة مريعة لم يعرفها إلّا قلّة من متيّمي الكراسي وعشّاق الحكم من كلّ الأجناس والأقوام على مرّ العصور.

كيف سيكون حال ليبيا اليوم لو ترك القذافي الكرسي منذ سنين لغيره من الليبيين، بل قل لو تركه حتّى لفلذة كبده (و إنْ كان ليس بالحلّ الأمثل) سيف الإسلام الذي كان أفضل منه في كلّ شيء

كيف سيكون حال ليبيا اليوم لو ترك القذافي الكرسي منذ سنين لغيره من الليبيين، بل قل لو تركه حتّى لفلذة كبده (و إنْ كان ليس بالحلّ الأمثل) سيف الإسلام الذي كان أفضل منه في كلّ شيء، والعهدة على بعض الرواة من الليبيين، لمقاومته لعبث اللجان الثوريّة وتسلّطها ودوره الأساس في إطلاق سراح المساجين السياسيين، بما في ذلك الأكثر خطرًا على كرسي والده من الجماعة الإسلاميّة المقاتلة ولسعيه إلى عقلنة الدولة وصياغة دستور ولتقريبه لثلّة من نخبة ليبيا المتميّزة في سائر المجالات من أجل أن تصبح ليبيا مثل الإمارات العربيّة المتّحدة أو سويسرا في جنوب المتوسط كما كان يحلم، هل كانت ستراق كلّ هذه الدماء ويُشرّد كلّ هؤلاء الأطفال والشيوخ والنساء، هل كانت ليبيا بخيراتها وجمال طبيعتها وكرم أهلها وطيبتهم التي كانت مضرب الأمثال في شمال أفريقيا كلّه لتتحوّل إلى وكر لصناعة القبح والتدمير وإنتاج الضغائن والأحقاد.

لعنة اللّه على الكرسي ألف مرّة ردّدت في نفسي الذي ورثه بشّار عن والده ويا ليته لم يفعل وظلّ طبيبًا لعيون أطفال سورية الجميلة يداويها تارة ويكحّلها أخرى حتّى تزداد جمالاً وقدرة على رؤية الآفاق البعيدة واستشراف مستقبل وطنها، مهد الحضارة والمدنيّة الإنسانيّة. هل كان الأمر سيؤول إلى ما آل إليه لنرى بأمّ أعيننا دمشق أقدم مدائن التاريخ وأعرقها تُرتكب فيها أحدث تقنيات القتل بشاعة وأشنعها. أليس الكرسي هو سبب البليّة كلّها في «دعشنة» حياتنا وذهابنا جميعًا إلى جحيم الزمن الأدعش. رحم اللّه الثعالبي صاحب «يتيمة الدهر» الذي قال في شأن الحكم «السلطان حلو الرّضاع، مرّ الفُطام».

الجلوس على كرسي الحكم قد لا تضاهيه لدى البعض متعة بما في ذلك متعة المتع التي جعلها اللّه تعالى سببًا لتعمير الكون ولتجديد النسل

الجلوس على كرسي الحكم قد لا تضاهيه لدى البعض متعة بما في ذلك متعة المتع التي جعلها اللّه تعالى سببًا لتعمير الكون ولتجديد النسل، النوع الإنساني واستخلافه في الأرض منذ الأزل خليفة وحيدًا لا خليفة بعده. لكن اسألوا منْ تكسّر بهم هذا الكرسي وما زالوا على قيد الأحياء مثل ابن علي ومبارك ليحدّثوكم عمّا جرى وعن المرارة التي يتجرّعونها والتي قد تكون أمر ممّا يذوقه رضيع فُصل عن ثدي أمّه. أنا جرّبت مرّتين تكسّر الكرسي بي، ليس كرسي السلطة، معاذ اللّه، وإنّما كرسي عادي للجلوس ولعامة الناس. مرّة في فناء بيتي وجدت نفسي طريحًا كاد يغمى علي ومرّة في قاعة التدريس بالجامعة لمّا ترنّحت من فوق كرسي اعتلّت قدمه الحديديّة دون أن أفطن بذلك لو لم أّتكئ على قدمي اليسرى وإلا لكنت افترشت الأرض أمام طلبتي الذين كانوا يتهيّؤون لأن ألقي عليهم درسًا في المدرج الكبير لكلّية الآداب بتونس حول استشراف المستقبل في الفكر العربي!

أمّا عن الأموات فيمكن أن نستحضر عاقبة التشبّث بالكرسي التي عاشها بورقيبة المجاهد الأكبر في أرذل العمر عندما انتزعه ابن علي من كرسيه ذات فجر ليوم 7 نوفمبر 1987 ليلقي به في غياهب الغياب والعزلة وليدفع الشعب التونسي بعد ذلك ثمنًا غاليًا ما زال يدفعه في حقيقة الأمر إلى اليوم نتيجة مرض بورقيبة بكرسي السلطة وتيتّمه به.

في التاريخ العربي الحديث هناك استثناءات تُعدّ على أقلّ من أصابع اليد الواحدة ممّن تركوا كرسي الحكم بمحض إرادتهم. لا أعرف حاكمًا آخر فعلها عدا سوار الذهب في السودان وولد الفال في موريتانيا. تمّ ذلك في العهد القديم ما قبل «الربيع العربي» المجيد، أما بعيده وفي حديقته الزاهرة الشائكة وفي هذا الزمن الجديد الذي تختلط فيه الديموقراطيّة والداعشيّة الناشئتين في الأرض الواحدة على نحو عجيب يسجّل التاريخ للمنصف المرزوقي الذي وعد التونسيين بترك الكرسي في ظرف ستّة أشهر لو لم يتحسّن حالهم أمنيًّا ومعيشيًّا إخلاله بوعده. مناضل حقوق الإنسان الكبير الذي وقف في بسالة أمام جبروت ابن علي يضعف أمام كرسي قصر قرطاج. الكثير في تونس يعتقد اعتقادًا جازمًا أنّ الرجل لم يستمت في الدفاع عن حقوق الإنسان قديمًا ولم يعارض الديكتاتوريّة للّه في سبيل اللّه وإنّما كان عشقًا في الكرسي. شخصيًّا استمتُّ شفويًّا في نفي هذه التهمة عنه لمّا أعلن عن نيّته الترشّح لرئاسة الجمهوريّة بمجرّد رجوعه إلى تونس بعد مغادرة ابن علي لها لمعرفتي السابقة به شخصيًّا وقفت فيها بالممارسة على دماثة أخلاقه وشهامته اعترافًا لي نحوه بجميل قديم تفضّل به علي وحقّ ضائع ساعدني على استرداده لمّا كان مشغولاً بهموم الإنسان وليس بهموم الكرسي. لهذا السبب أنصحه بألّا يترشّح هذه المرّة لعلّه يمحو هذه التهمة الخطيرة لمثقّف مثله وعفا اللّه عمّا سلف، فيستعيد بريقه الإنساني والنضالي القديم ويسجّله التاريخ باعتباره الرئيس العربي الوحيد ولربّما من القلائل في العالم الذي لا يتقدّم للترشّح مرّة ثانية ويهزم الكرسي في نهاية المطاف ولا يهزمه. وهذا في حدّ ذاته مكسب عظيم. أما عن الأصدقاء والإخوان والرفاق الذين يتقاتلون الآن في الحزب الواحد وبين الأحزاب المختلفة المتناحرة تحت مظلّة الديموقراطيّة المهدّدة داعشيًّا بالكلام الحي وبذخيرة السلاح فحدّث ولا حرج.

في باريس قضّيت هذا الصباح في تأمّل الكراسي على اختلاف أنواعها. لم يسعفني الحظّ لتأمل كراسي قطار الأنفاق لأن الأجسام البشريّة المرتمية والمتهالكة فيها حالت دوني وذلك. وأنا أمر حذو كلّية الحقوق في جامعة السوربون بانتيون(Panthéon) التي درس فيها الزعيم الفيتنامي «هوشي منه» وبورقيبة وأحد زعماء الإخوان المسلمين الكبار ولعلّه كبيرهم الذي أباح الزواج للمسلمات بالذكور من أهل الكتاب وأهدر دمه لذلك خطرت ببالي فكرة زيارة متاحف باريس بحثًا عن كرسي نابوليون بونابرت وكرسي لويس الرابع عشر وكرسي شارل ديغول، لكن سرعان ما عدلت عن هذه الفكرة. تمنّيت في اللّحظة ذاتها لو كنت مخرجًا مسرحيًّا مثل الجبالي التونسي صاحب كلام الليل وهو ليس الجبالي حمّادي الوزير الأوّل لتونس والنهضة سابقًا –لمن لا يعلم وحتّى لا تلتبس في ذهنه الأمور- الذي سيسجّل له التاريخ دون شكّ خصلة لعلّها الوحيدة أيام حكمه أنّه ترك الكرسي عندما شعر بأنه لم يعد الواحد منهما يطيق الآخر وهذا في حدّ ذاته مكسب كبير لعشّاق التداول على الكرسي. تمنّيت أن أكون مسرحيًّا لأخرج مسرحيّة يكون بطلها كرسي أرمي به في الخشبة وحيدًا لا يجلس عليه أحد.. لذت بمقهى في سان ميشال وجلست على كرسي مكرها أخاك لا بطل لأكتب لعنة اللّه على الكرسي.