Atwasat

ثوار - أزلام

سالم العوكلي الإثنين 01 سبتمبر 2014, 04:36 مساء
سالم العوكلي

كثرت الاصطلاحات أو التسميات، الاتهامية أو التقديسية، بعد سقوط النظام السابق في ليبيا، ولكن ظل مصطلحان متضادان هما المسيطران على الساحة؛ ثوار/ أزلام. وهي أسهل الطرق لإقصاء أكبر قدر من الناس، ورفع قدر منهم إلى درجة القداسة. يشبه هذه التصنيف الثنائي تقسيم المجتمع أو القوم إلى مؤمنين وكفار، ليشكل نوعًا من التكفير السياسي أو، بالأحرى، الاجتماعي الأقرب إلى مرجعيات غيبية أكثر من كونه له علاقة بالواقع. كما يشبه هذا التصنيف نهج النظام السابق في تقسيم الليبيين إلى رجعي وثوري، والذي تم بذريعته تصفية أو تهميش كل الوطنيين تحت مسمى الرجعي، وتقديس القلة منهم وإعطاؤهم كل الصلاحيات تحت مسمى ثوري.

انتفاضة فبراير لم تكن لتقوم لولا ثورتي تونس ومصر

وإطلاق تهم عبر اصطلاحات غير معرفة وواسعة الطيف كان دائمًا دأب السلطات الشمولية المؤدلجة للحكم على المخالفين في الرأي دون محاكمة، بل توعدهم بالويل والثبور تحت مسمى، بقدر ما يدغدغ وجدان الدهماء، بقدر ما يجعل الانفراد بالسلطة ميسرًا دون عنت التنافس السياسي الشريف أو تنافس البرامج السياسية التي تتعلق بالمستقبل، وبالتالي يصبح الماضي هو المحكمة الافتراضية المنصوبة دون شروطها الأخلاقية للاستيلاء على المستقبل، وعبر قلة سمت نفسها ثوارًا لتحتكر شرعية أفعالها وقداستها حتى وإن كانت هذه الأفعال لا تقل وحشية عما يتهمون به الأزلام في النظام السابق.

ويبرز سؤال لا بد منه، لكنه مزعج لهؤلاء الذين استكانوا لهذا التصنيف الذي يجنبهم الخوض في تنافس سياسي سلمي شريف تحكمه الكفاءة أو المهارة. السؤال: ما المقصود بالأزلام؟ وما المقصود بالثوار؟ هل يمكن أن نُقصي نصف مجتمع باصطلاح غير محدد ومعرف، ونقدس جزءًا من المجتمع باصطلاح غير مبرهن عليه؟

فانتفاضة فبراير، والتي أتحاشى دائمًا تسميتها ثورة، لم تكن لتقوم لولا ثورتي تونس ومصر، ومثلت في مجتمع استكان للسلطة السابقة نوعًا من انتقال العدوى الجغرافية لما حدث في الجارتين، بدأ هذا الحراك عبر شباب الـ«فيسبوك» الذين حددوا موعدًا معينًا لهذه الانتفاضة مثلما حدث في مصر، وبسبب ارتباك النظام وتكبره وتعنته بدأت الانتفاضة قبل الموعد بيومين، وكان المراد أن تكون هذه الانتفاضة سلمية مثلما حدث في الجارتين، ومثلما كان يحدث وقتها في دولة مثل اليمن، صاحبة تلك الثورة العظيمة التي ظلمها الإعلام والتاريخ للدرجة التي أصبحت منسية في سياق الربيع العربي، ملايين اليمنيين خرجوا إلى الشوارع في حراك سلمي على الرغم من ظاهرة انتشار السلاح بشكل لا يوجد مثيله في العالم.

لكن الانتفاضة الليبية تعسكرت منذ أيامها الأولى وخرجت عن مسارها الذي بدأت به، وكان لا بد أن تفضي هذه العسكرة إلى تدخل دولي عنيف، ومن ثم تفضي إلى كون من حمل السلاح هم الثوار، وبدل العدوى الجغرافية من ثورتي الجارتين، أصيبت انتفاضة فبراير بعدوى تاريخية من حركات تمرد مؤدلجة حصلت قبل عقود في أميركيا اللاتينية، لذلك كان يزعجنا أن يسمي الإعلام الغربي المقاتلين بالمتمردين مثلما كان وما زال يسميهم في بعض تلك الأقطار اللاتينية، وكان يزعجنا أن الكثير من الإعلام الغربي حينها يضع عنوانًا خلفيًا للحديث عن الانتفاضة الليبية مفاده(الحرب الأهلية في ليبيا). هذا التحول هو الذي جعل المفكر عزمي بشارة يقول عما يحدث في ليبيا: إن الثورات العنيفة من الممكن أن تجتث النظام من جذوره، لكنها في النهاية لا تفضي إلى ديموقراطية. بمعنى أن من حمل السلاح هو من سيطالب بالشرعية الثورية، وهو من سيفرغ الشارع من أي حراك سلمي، وهو من سيصنف المجتمع كما يروق له، وهو من سيفرض القوانين والقرارات المصيرية التي تحافظ على نفوذه، وهو من سيوقف المسار الديموقراطي، وكل ذلك عبر آلية أقرب إلى أن تكون انقلابًا من أن تكون ثورة.

مثلما دغدغ النظام السابق الوجدان الديني واستعان بفتاوى تبرر نهجه فإن من يسمون أنفسهم الثوار يتخذون النهج نفسه

وبهذا المعنى تتقلص انتفاضة شارك فيها الملايين من الشعب إلى حركة تمرد من عدة آلاف، احتكروا هذا الحراك وسموا أنفسهم الثوار، وعبر إقصاء ملايين، لولا خروجهم مرة واحدة إلى الشوارع، لما سقط النظام. وبسبب فتنة هذه السلطة وهذا النفوذ، سيعتبر المقاتلون الذين حاربوا تحت حماية طائرات الناتو وعبر استجدائهم الدائم للناتو بأن يساعدهم، سيعتبرون أي تدخل دولي لحماية المدنيين الآن نوعًا من الخيانة والعمالة، رحبوا به في المرة الأولى لأنهم ضحايا في مواجهة طغاة وترسانة أسلحة تهدد المدنيين، ويدينونه الآن لأنهم أصبحوا الطغاة الجدد الذين يملكون ترسانة أسلحة تهدد المدنيين. وبالتالي فتسمية الثوار في ظروف مثل هذه، وفي انتفاضة شارك فيها الملايين، وما كانت لتبلغ أهدافها لولا تدخل الناتو، هو نوع رخيص من سرقة(الثورة) مع التحفظ على التسمية، وتحت شعار حماية الثورة الوهم ستحدث جرائم إنسانية ضد المجتمع، مثلما نفذ النظام السابق ومريدوه كل جرائمهم تحت لافتة حماية الثورة، وفي الحالتين ليس ثمة ثورة، لأنها كانت انقلابات استعانت بالسلاح والقوة للسيطرة على السلطة والنفط، واستبدلت سلاحًا بسلاح وكتائب بميليشيات، وقوانين إقصائية بقوانين أكثر إقصاء.

أما المصطلح الثاني(أزلام) المقابل لمصطلح ثوار، فهو تسمية عائمة وعمياء، تجعل من الإقصاء إجراءً تعسفيًا وسريعًا، دون عنت الدخول في محاكمات، أو عبر آلية صعبة تعرف بالعدالة الانتقالية التي تحتاج إلى صبر وجهد.

ماذا يعني مصطلح الأزلام في مجتمع عاش في ظل نظام قمعي لأربعة عقود، وعاش هذا النظام كل هذه الفترة عبر حشود شعبية كانت تبايعه باستمرار وتستقبله بعشرات الآلاف في كل مدينة يزورها، وبهتافات وصلت إلى درجة التجديف.

فكل المدن الليبية وكل القبائل بايعت القذافي وعاهدته بوثائق مكتوبة بالدم أو بالذهب، ولم يعلن أحد في الداخل اعتراضه على هذه المبايعة أو أنها لا تمثله، وعبر هذه الوثائق المكتوبة، وبمنطقهم في تصنيف الناس، فإن كل المجتمع الليبي أزلام، مثلما نقول بعد فبراير أن كل المجتمع الليبي ثوار. ولكن سيقول قائل إن الأزلام هم فقط من تورطوا في جرائم ضد المجتمع الليبي، من قتل واغتيال وسجن وتعذيب وإقصاء وفساد وتخريب بناه التحتية ومرافقه الحيوية، واختصرَ كل ذلك في عبارة: من تلوثت يداه بدم أو مال الليبيين أو بكليهما، وردًا على هذه الحجة سأقول باختصار إن ما حدث في الثلاث السنوات الأخيرة وبعد ثورة فبراير من قتل واغتيال وإقصاء وتعذيب وسجن دون محاكمة وسرقة لمال الليبيين وتخريب لمرافقهم الحيوية أضعاف ما حدث طيلة الأربعين سنة من حكم النظام السابق، وكل ذلك حدث كما حدث إبان النظام السابق بحجة الحفاظ على الثورة وحمايتها من المتربصين، وفي كلتا الحالتين ليس ثمة ثورة بالمفهوم التاريخي، وبالتالي ليس ثمة متربصون بها، لكن القصة بأكملها تكمن في قلة ترغب في الوصول إلى السلطة والنفط عبر اختراع هذه التسميات التكفيرية التي من شأنها أن تعطيها شرعية إقصاء وإهلاك كل من يعترض طريقها.

ومثلما دغدغ النظام السابق الوجدان الديني واستعان بفتاوى تبرر نهجه، فإن من يسمون أنفسهم الثوار يتخذون النهج نفسه، والضحية دائمًا هم غالب الشعب الذين يُلدغون على مر التاريخ من الجحر نفسه. ووفقًا لكل ذلك لن تقوم الدولة الليبية ولن يتحقق الاستقرار والتقدم والأمان ولن نتجاوز كل هذه المعاناة إلا إذا تخلصنا من قاموس الاصطلاحات الإقصائية، وسعينا فعلاً لعملية عاجلة من المصالحة الاجتماعية التي تنبع من كوننا في ليبيا لا أحد يزايد على أحد، لا في قصة الأزلام، ولا في قصة الثوار، وأننا في النهاية في قارب واحد، وواحد فقط، عبر هجرة شرعية إلى زمن جديد وبديل في المكان نفسه، الذي هو ليبيا وطننا جميعًا.