Atwasat

ترحال:حرب الكلّ ضدّ الكلّ

محمد الجويلي السبت 30 أغسطس 2014, 03:10 مساء
محمد الجويلي

كشفت «الثورات العربية» في السنوات الأخيرة عن المخفي والمستور من الحقائق والمعطيات الموضوعيّة في المجتمعات العربيّة. ولعلّ أولى هذه الحقائق وأكثرها جلاء هي أنّ مجتمعاتنا قد تكون في هذا العصر أكثر المجتمعات بدائيّة وبهيميّة وتوحّشًا، رغم ما يبدو فيها من نزوع الغالبيّة نحو التديّن، تديّن في الشكل والمظهر وليس في الباطن والجوهر. وعندما نصفها بالبدائيّة فلا نعني بذلك بدائيي ما قبل العصر الحجري الذين كانوا يعيشون على الفطرة والطبيعة وأمان واطمئنان في أغلب الأحيان وإذا ما شبّ بينهم خلاف لم يجدوا أكثر من أظافرهم وأيديهم وأنيابهم لفضّ خلافاتهم بالقوّة، وإنّما نعني بذلك بدائيي العصور المتأخّرة الذين تقدّموا أشواطا مهمّة في تطوير تقنيات عيشهم بما في ذلك تقنيات الاعتداء على بعضهم البعض، بل قل اعتداء القويّ منهم على الضعيف «حوت يأكل حوت وقليل الجهد يموت» كما يعبّر عن ذلك أحسن تعبير هذا المثل الشعبي، ولكنّهم لم يصلوا بعد إلى مرحلة العمران بالمفهوم الخلدوني للكلمة وسنّ قوانين تنظّم اجتماعهم السياسي في شكل دولة، أو شبه دولة، فضلا عن الإيمان بخالق يراقبهم ويحصي عليهم سيئاتهم ويهدّدهم بالعقاب الآخروي في حالة اعتداء الواحد منهم على الآخر وظلمه.

لم تُغتصب نساء في العالم خلال السنوات الأخيرة كما اغتصبت نساء في العالم العربي

قد يتفاجأ البعض بالقول إنّ ما يسميّه «صحوة إسلاميّة» ليست إلّا صحوة في المظهر وليست في الجوهر وإنّ هذه الصحوة تخفي نكبة إسلاميّة حقيقيّة في هذا العصر، لم يعرف لها العرب والمسلمون مثيلا في تاريخهم، باختزال الإسلام من عوام العرب والمسلمين في مجرّد طقوس وعبادات فقط دون استلهام مقاصده العميقة في البناء والتعمير وبتلويثه من البعض من نخبتها المسمّاة «إسلاميّة» بشهوة السلطة والحكم، وهي شهوة حيوانيّة بامتياز وإن قطعت بعض الأمم شوطا مهمّا في أنسنتها وتهذيبها دون أن تتمكّن من اجتثاث المتوحّش فيها نهائيّا وبتمريغه في وحل صراعات الدول العظمى الاستراتيجيّة على النفوذ والطاقة والأسواق التي استعملت فيها هذه النخبة تارة وقودا لها وطورا أداة تستخدمها لكبح جماح التقدّم التاريخي لشعوبنا وشلّ طاقاتها عن العمل نحو المستقبل والانخراط بفاعليّة في المجتمع الإنساني عوض البقاء على هامشه منبوذا ومحلّ توجّس وريبة.

ومن البديهي أن يكون أوّل ضحيّة لانفلات هذه الغرائز البهيميّة المقموعة، التي كان يكبتها الاستبداد ويخنقها ويغذّيها في ذات الوقت، التي أعقبت هذه الثورات، وماهي في الحقيقة بثورات ولا انتفاضات، وقد يصعب تصنيفها في خانة من الخانات التي خبرناها وفي فصل من الفصول التي عهدناها، هو الإسلام نفسه بحيث لم تعرف مساجد المعمورة في القارات الخمس وفي أرض «الكفرة» وما هم بكفرة في هذه الحالة، ما عرفته المساجد الموجودة على أرض العرب المسلمين باسم الإسلام من اعتداء وتخريب وفتن وتقاتل بحيث تحوّل ما لم تدمّره منها الصواريخ عن قصد أو عن غير قصد إلى مراكز للترهيب وتكفير التفكير وإنتاج الكراهيّة والتفنّن في صناعة الموت ومشتقّاته.

ليس ثمّة أرض في الكون اليوم تُستباح فيها المقدّسات مثل أرضُنا

أمّا عن تدمير الكنائس، بيوت إيمان أهل الكتاب، والإخوة في التوحيد واللّغة والتاريخ من نصارى العراق وبلاد الشام العرب الذين ساهموا في تطوّر الحضارة العربيّة الإسلامية في عهدي الخلافتين الأمويّة والعبّاسيّة ووقف أجدادهم القدامى جنبًا إلى جنب مع المسلمين في الحروب الصليبيّة ذودًا عن الديار والدين والأرض والعرض كما وقف أجدادهم المحدثون في القرن التاسع عشر وفي فترة الاستعمار الحديث حماة للغة القرآن العربية ناهضين بها مدافعين عنها مطوّرين لأساليبها انتشالا لها من الفناء، فحدّث ولا حرج حتّى تنحبس أنفاسك ويُظْلِمِ الكونُ في عينيك.

ليس ثمّة أرض في الكون اليوم تُستباح فيها المقدّسات: دور عبادة وأضرحة أولياء صالحين وصحابة وتنتهك فيها حقوق المخالفين في الدين وفي المذهب الواحد في الدين الواحد نفسه ويُستباح دمهم وتهتك أعراضهم وتُنهب أموالهم قبل أن يلوذ من نجوا بجلودهم منهم بالجبال والصحاري والبراري مثل أرضُنا. لم تُغتصب نساء في العالم خلال السنوات الأخيرة كما اغتصبت نساء في العالم العربي ولم يُشرّد أطفال وشيوخ كما شُرّد أطفالنا وشيوخنا.

انفلت الوحش من عقاله. كان ابن علي ومبارك والقذافي، ومن قبلهم صدّام حسين وحافظ الأسد، يكبّلونه بأصفاد من حديد ويضعونه في قبو. هذا الوحش يكاد يكون موجودا فينا جميعا - وإن بدرجات متفاوتة حتّى لا نكون عدميين– إلّا من رحم ربّك، في الشيعة والسنّة وفي العوام والمثقفين وفي المنتصرين والمهزومين وفي الحكّام والمحكومين وفي الإسلاميين والعلمانيين وفي المستبدّين و«الديموقراطيين». حرب الكلّ ضدّ الكلّ التي تحدّث عنها «توماس هويز» في الفلسفة السياسية توصيفًا لما سمّاه ابن خلدون قبله بقرون المُلك الطبيعي الذي لا مرجعيّة له عدا الغصب والقهر والغلبة تدور الآن رحاها في مدننا وقرانا كما لم تدر رحاها في أيّ مكان في العالم من قبل: حرب الشيعة ضدّ السنّة والسنّة ضدّ الشيعة وشيعة وسنّة إسلاميون ضدّ شيعة وسنّة علمانيين وإسلاميون غلاة ضدّ إسلاميين يقال عنهم أنّهم معتدلون وإسلاميون غلاة ضد إسلاميين أشدّ غلوّ ا منهم أو أقلّ بقليل واللّه أعلم وحزب اللّه ضدّ داعش والنصرة معا والنصرة ضدّ داعش وإسلاميون وعلمانيون في جبهة واحدة [هكذا يقدّمون أنفسهم في تونس]، ضدّ علمانيين ليبراليين ويساريين ومدن منتصرة ضدّ مدن مهزومة وقبائل ضد قبائل وعروش ضدّ عروش وسياسيون علمانيون ضدّ رفاقهم العلمانيين الذين يشاطرونهم نفس الأفكار والأحلام ولكنّهم يتناحرون معهم على السلطة والمناصب وعلى كلّ شيء ولا شيء: حرب الكلّ ضدّ الكلّ اندلعت ولا نعرف كيف ومتى يمكن أن تضع أوزارها.

في هذه الحرب الكلامية استعملت كلّ النعوت والألفاظ النابية التي لو قِيلت في مجتمعات عربيّة أخرى لجرّدت بسببها السيوف

في حوار مع المفكّر والمؤرّخ التونسي هشام جعيط أجرته معه صحيفة القدس العربي في لندن أخيرا يصف الحرب التي دارت بين الإسلاميين[ويقصد النهضة] والعلمانيين في تونس خلال السنوات الماضية بأنّها حرب كلاميّة فحسب ولم تتحوّل إلى عنف مسلّح كما هو الحال في ليبيا لأنّ التونسيين ينبذون العنف بطبعهم، على حدّ تعبيره، علما وأنّ المئات منهم مورّطون في العنف، بل القتل داخل البلاد وخارجها.

في هذه الحرب الكلامية استعملت كلّ النعوت والألفاظ النابية أحيانا على التليفزيون بما في ذلك وصف الخصم السياسي بالكلب والعاهرة وغيرها من الألفاظ على «فيسبوك» التي لا يسمح المقام بذكرها والتي لو قِيلت في مجتمعات عربيّة أخرى لجرّدت بسببها السيوف والخناجر ولأسالت دما غزيرا. لا نعتقد أنّه ثمّة مجتمع أعنف من مجتمع آخر وإنّما هي الظروف والأحوال تختلف من بلد إلى آخر ولا شيء يضمن أنهّ لو وجد في تونس سلاح كما وُجد في ليبيا ألّا تتحوّل الحرب الكلاميّة إلى حرب بالذخيرة الحيّة: الوحش يقبع في الإنسان مهما كان لونه ودينه يروّضه الخوف من القانون والعقاب وتهذّبه الشرائع والأخلاق وإذا ما غاب القانون وضعفت الدولة سرعان ما ينفلت من عقاله.

العنف عندما يندلع في مجتمع ما كمن يرمي بعود ثقاب مشتعل في كومة من التبن سرعان ما يسري سريان النار في الهشيم وليس من السهل إطفاء حريقه.