Atwasat

الضوءُ والظلامُ: القناعُ والوجهُ

عمر أبو القاسم الككلي الخميس 28 أغسطس 2014, 11:29 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

في المجتمعات التي ظل القمع فيها، بصيغتيه الاجتماعية والسياسية، يتدفق كنهر لا ينضب معينه من الماضي السحيق وحتى الآن، تتم صياغة ذوات الأفراد على أساس من هذا القمع، وجدانا وفكرا وسلوكا. وفي كثير من الحالات تنفصم ذوات الأفراد إلى ذاتين:
* ذات عامة، منافقة، تعطي المجتمع الوجه، أو القناع، الذي يريده.

* ذات خاصة، صادقة، لكنها خائفة ومنكمشة ومطاردة، تمارس ما تيسر لها من رغبات في الظلام، بمعنييه الطبيعي والمجازي.

أي تنشطر حياة الأفراد إلى حياتين، الظاهرة، العلنية، منهما كثيرا ما تكون زائفة إلى هذا الحد أو ذاك، والباطنة، السرية، التي كثيرا ما تتناقض مع الأولى بهذا القدر أو ذاك. حياة مكشوفة للناس وللضوء، وحياة مخبوءة محجوبة في الظلام. وهنا تنقلب المفاهيم فيصبح الضوء مرتعا للزيف، والظلام مجالا لحركة الصدق مع الذات. يصبح الضوء إقليما للنفاق الاجتماعي والظلام عالما لاتساق الفرد مع ذاته الباطنة.

ونجد في الشعر العربي بعض التجليات على هذا النفاق والسرية. على تعارض الظاهر والباطن:

إذا جئت فامنح طرفَ عينيك غيرَنا لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظرُ!
(عمر بن أبي ربيعة)

فهنا الظاهر والمكشوف زائف، ليسترَ ويخفيَ ويموِّهَ سرا مكنونا. ليس هذا فحسب، وإنما يتم توريط طرف ثالث، في غفلة منه، بوضعه في دائرة"الشبهات" من خلال منحه طرفَ العينين الذي كان ينبغي أن يمنح لغيره علنا في حياة سوية.

في مناخ القمع من تنقلب قيم الضوء والظلام، بحيث يصبح الأول عدوا ضاريا والثاني صديقا حاميا وتتغير، بذلك، القيمة الجمالية لهذين العنصرين:

حين لذ النوم شيئاً أو كما .. هجم الصبح هجوم الحرسِ
(لسان الدين بن الخطيب)

هنا يتحول الصبح المنير، الذي هو رمز للْبُشْرى والأمل والفرح، إلى قوة معادية تهجم"هجوم الحرس" لأن ضوءه الداهم أزاح ستار الظلام عن العاشقين، الأمر الذي قد تنجرُّ عنه عواقب وخيمة.

إن القمع، ونكرر مرة أخرى: بصيغتيه الاجتماعية والسياسية، لا يشوه النفوسَ والذواتِ فقط، وإنما يشوه الطبيعةَ أيضا. أو هو يشوه الطبيعة لأنه يشوه الذواتِ والنفوسَ، مثلما مرَّ بنا أعلاه من تحول الصبح الجميل إلى قوة غاشمة معادية ومثلما يتحول، في مقطع من قصيدة للشاعر العراقي فوزي كريم، نهر دجلة إلى رديف للموت (يبدو لأن جثث المخطوفين المغتالين تلقى فيه) ويتحول الفجر إلى نذير شؤم لأن مداهمات الشرطة السرية تجري مع بزوغه:

لست أدري لماذا
يذكرني نهر دجلةَ بالموتِ
والفجر بالاعتقال.