Atwasat

الحرب الغبية

محمد اقميع الإثنين 25 أغسطس 2014, 03:11 مساء
محمد اقميع

لقد زينت لهم «النبأ» سوء عملهم وصورتهم أبطالاً صناديدَ وهم يدمرون ويحرقون بلادهم ويقتلون إخوانهم في الدين والوطن، ومثل هذه الفضائية «الوافدة» كمثل إبليس في قوله الكريم «وَإِذْ زَين لَهم الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهم وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتان نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ»، وستنكص على عقبيها وترجع «النبـأ» إلى ظلال دوحتها الوارفة راضية مرضية تاركة خلفها هذا الركام من الجثث والدمار. وللأسف، ونظرًا لجهلهم فإنهم سرعان ما ابتلعوا الطُعم، وركضوا خلف جزرة السلطة المُعلقة على رؤوسهم، ولو توقفوا ليفكروا قليلاً لأدركوا حقيقة فخ هذه الحرب الغبية التي وقعـوا فيها.! ولكن، العصا والجــزرة لا توضع على رؤوس من يجيدون التفكير.!

إن الأغبياء وحدهم من يقعـون في فخ التعـصب والتطـرف القبلي والديني ووحدهم من تتأجج في قلوبهم روح الانتقام والعدوان وتنفلت من عقالها أشد الغــرائز بداءة وتهديمًا، وتلك العدائية هي عقبة الحضارة الأكثر رعبًا كما يصفها فرويد، وكما يقول عالم النفس غوستاف لوبون: «إن الذكاء إذ يبين تعـقـد الأشياء ويتيح تفسيرها وشـرحها، يجعل المرء أكـثر تسامحًا ويضعف بالتالي من حدة القناعات وعنفها»، وللأسف، كان قدر هذا الشعب اليوم أن يكون ضحية لأمثال هؤلاء البلهاء الذين يمتلكون أعتى الأسلحة ويتربعون على الدبابات وراجمات الصواريخ، والذين يقودهم إعلام الحرب كالمغشي عليهم.

المشكلة أن بين هؤلاء عددًا من الشخصيات ممن يوصفون بالمثقفين أو النخب الدينية والسياسية والذين كان من المفترض بأن تمنحهم مؤهلاتهم ودرجاتهم العلمية الحصانة من الوقوع في فخ التعصب والانقياد الأعمى خلف غرائزهم العدوانية

والمشكلة أن بين هؤلاء عددًا من الشخصيات ممن يوصفون بالمثقفين أو النخب الدينية والسياسية والذين كان من المفترض بأن تمنحهم مؤهلاتهم ودرجاتهم العلمية الحصانة من الوقوع في فخ التعصب والانقياد الأعمى خلف غرائزهم العدوانية، ولكن، وبحسب الدراسات النفسية للعقل الجماعي، فإن مثل هذه الشخصيات كان يمكن لها بالفعــل أن تحتفظ بتفــردها وتمـيزها عن رجل الشارع البسيط، لـو لم تنخرط ضمن قطيع المغـفــلين الذين تم التلاعب بهم «إعلاميًا». فبمجرد انخراط هذه الشخصيات أو تجنيدهم ضمن قطيع سياسي أو طائفي أو ميليشياوي أو قبلي فسرعان ما يلتقطون عدوى ذلك القطيع ويفقــدون خواصهم ومزاياهم الفـردية ليكتسبوا خواص ذلك المجموع وصفاته ويسلكوا مسلكه، ويتحولوا إلى مجرد رقم وسط ذلك القطيع المجرم الذي لا عقل له، ومهمة التجنيد أو التحشيد تلك غالبًا ما تتولاها مؤسسات أو دول أو وسائل إعلامية والتي تتولاها في ليبيا ما يعرف بقناة النبأ وغيرها من القنوات الأجنبية الموجهة للشارع الليبي.

ولهذا السبب بالذات ومنذ بدايات حرب 2011 وحتى هذه اللحظة عملت وسائل الإعلام على ترسيخ ثقافة الانتماءات والولاءات القبلية والجهوية وأصبحت أسماء المدن والمناطق والقبائل هي ما يتردد ويتداول في وسائل الإعلام المحلية والدولية أكثر مما يتردد اسم ليبيا كوطن موحد يضم الجميع، لغرض تحويل المجتمع الليبي إلى قطعان جهوية وقبلية متناحرة فيما بينها تتنافس على النفوذ والسلطة، والتي كان من نتائجها ما نشهده اليوم من حروب أهلية في شرق البلاد وغربها.

ولعل ما أثِير أخيرًا من مشاكل حول المدينة التي ستكون مقرًا للبرلمان الجديد جزءٌ من هذا التحشيد والتناحر الجهوي والقبلي وتأليب قاطني المدن الليبية على بعضهم البعض واختلاق النزاعات الجهوية بغرض تحويل انتباه الشعب الليبي عن مشاكله الحقيقية، فماذا يعني أن يكون مقر البرلمان في طبرق أو سبها أو الجغبوب أو في أي مدينة أو قرية ليبية أو حتى في خيمة في قلب الصحراء الليبية، إن هذا غير مهم إطلاقًا، والمهم هو التعامل مع المشاكل الحقيقية لهذا البلد والتي تهدد استمراره وبقاءه كدولة.

إن ميليشيات المتمردين اليوم، سواء في الغرب أو الشرق الليبي، يخوضون حربًا شرسة من أجل السيطرة على بعض المدن الرئيسة في البلاد، اعتقادًا منهم أنهم باحتلالهم تلك المدن الكبرى سيتمكنون من حكم البلاد بالقوة وفرض إملاءاتهم وشروطهم على الليبيين.

إن ميليشيات المتمردين اليوم، سواء في الغرب أو الشرق الليبي، يخوضون حربًا شرسة من أجل السيطرة على بعض المدن الرئيسة في البلاد، اعتقادًا منهم أنهم باحتلالهم تلك المدن الكبرى سيتمكنون من حكم البلاد بالقوة وفرض إملاءاتهم وشروطهم على الليبيين. ويتشبث هؤلاء المتمردون بالوهم الذي تم «تلقينهم» إياه بأن: «من يملك السلاح ويفرض سيطرته على رقعة جغـرافية أوسع هو من سيحكم ليبيا ويقرر مصيرها.!» وهذا الوهم بالطبع هو ما دفعهم للتضحية بكل شيء؛ وهو ما دفع شخصيات رسمية وسياسية وعسكرية في الدولة الليبية إلى أن تتحول إلى مجرد زعماء لعصابات من الانفصاليين والمتمردين على السلطة وجر البلاد إلى حرب أهلية وتورطهم في جرائم القتل والتدمير وتهجير الآلاف من المدنيين وتشريدهم وترويعهم.

لقد صرح أحد قادة متمردي ما يسمى بعملية «قسورة» بأنهم يسيطرون عسكريًا على أربع مدن كبرى في ليبيا. لكننا نذكرهم بأن من يقطن تلك المدن هم بشر وليبيون أيضا، فإن استطاعوا تحويل سكان مدينة بأسرها إلى مجرد قطيع يركبونه ويزجوا بأبنائه في محرقة الحرب فإنهم لن يستطيعوا فعل الشيء نفسه مع كل الليبيين، وسيلقنهم الشعب درسًا لن ينسوه إذا لم يعودوا إلى رشدهم؛ وإلى عقلهم الذي عطلته الآلة الإعلامية الوافدة والمحترفة في التحشيد الديني والقبلي وصناعة القطعان الغبية والبلهاء.

وستنتهي هذه الحرب وسيكتشف الواهمون بانتصاراتهم الزائفة مدى بلاهتهم وخسارتهم وهزيمتهم، وسيقفون عراة أمام حقيقة التلاعب بهم وكيف كانوا مجرد دُمى في هذه التراجيديا الدامية التي لم تخلف وراءها سوى الحقد والدمار والموت. لا أحد سيلتمس لهم عذرًا، وسيُنكّل بهم كما فُعِل بمن سبقهم من الطغاة الذين أعمتهم أوهام القوة، وسيهتف الجمع حينها: فلتذهب إلى الجحيم كل ثورة أو انقلاب يدفعك لقتل إنسان، و«الجنة» التي ستصعد إليها على جثث أخوتك في الدين والوطن ليست في الحقيقة إلا الجحيم بعينه وهي الملاذ الأخير للقتلة والمجرمين.

أخيرًا، وللخروج من هذا المأزق فإننا لا نحتاج لتدخل أجنبي بقدر ما نحتاج لطرد التدخل الأجنبي وعلى رأسها القنوات الأجنبية الموجهة للشارع الليبي، فليس هناك دولة ذات سيادة تسمح بقنوات أجنبية على أرضها تهدد الأمن والسلم الاجتماعي وتروج للحرب والاقتتال بين أبناء شعبها.

ويجب تدخل «الإعلام الوطني الليبي» وإطلاق مؤسسة إعلامية ليبية قوية بعناصرها وتمويلها لتساهم في إيقاف هذه الحرب وإطفاء فتيلها وإيقاظ الجموع الغافلة والمغيبة التي تساق إلى حتفها طائعة من قبل إعلام الحرب والدمار، وليبيا لا تنقصها الكوادر الوطنية المؤهلة خصوصًا أن كثيرًا منهم قد انسحبوا من تلك الفضائيات المشبوهة المُحرضة على العنف والاقتتال؛ وانحازوا إلى وطنهم رفضًا للحرب والدمار في بلدهم، وعلى مجلس النواب أن يمنحهم الفرصة والدعم لإدارة قنواتهم الوطنية، ولإشاعة خطاب السلام والتسامح والمصالحة ورأب الصدع ما بين الليبيين ونبذ العنف والإرهاب بكل أشكاله ومسمياته، واجتثاث خطاب الانتقام والتنكيل والتحريض على العنف.

ونرجو ألا يرتكب البرلمان الجديد نفس حماقة من سبقه من السلطات بإهمال «الإعلام» واعتباره من سقط المتاع. فإن فعلها فسيكونون هم من سقط المتاع في هذا الوطن، فالإعلام لم يعد السلطة الرابعة كما كان يصنف في القرن التاسع عشر؛ فقد قفز إلى عــرش السلطة الأولى في عالمنا اليوم من حيث تأثيره ودوره في بناء ونهضة الدول وتحقيق السلام والأمن المجتمعي. والدولة التي لا إعلام لديها يشد من أزرها ويحمي بلدها فلا سلطة لها على أرضها، فهو بلا مبالغة أهم من كل القواعد والجيوش.