Atwasat

كم نحن أحفاد بؤساء لأجداد عظام!!

سالم العوكلي السبت 23 أغسطس 2014, 01:23 مساء
سالم العوكلي

غزا الطليان ليبيا، ثم ما فتئت أن قامت الفاشية لتُصدِّر عنفها إلى ما وراء البحر أو ما يسمونه الشاطئ الرابع، ليبيا. ولأكثر من ثلاثين عامًا حكمت الفاشية ليبيا ونكلت بمعارضيها وقتلت ونصبت المشانق وأقامت أعتى معتقلات جماعية في التاريخ، وعبر كل هذه الحقبة تعامل الكثير من الليبيين مع هذه القوة الوافدة؛ البعض مجبرًا، والبعض بحماس كبير، فحارب بعض الليبيين بعضهم، وأعلنت أجزاء من قبائل، أو قبائل بأكملها، ولاءها للفاشية، وطاردت كتائب ليبية تابعة للطليان رجال المقاومة الليبيين، العديد من الليبيين عملوا وشاة لصالح الغزاة، والبعض نفذوا أحكام الإعدام بإخوانهم الليبيين والبعض استولوا على أملاك ليست من حقهم.

انقضت هذه الحقبة بدخول جيوش الحلفاء لتترك إرثًا قاسيًا من الآلام والأحقاد والثارات، تكفي لفناء ما تبقى من هذا الشعب البسيط وقليل العدد، وعلى مشارف هكذا خطر يظهر الحكماء وأصحاب العقول وخبراء التجربة الاجتماعية الطويلة في رأب الصدوع وإصلاح ذات البين، فحُرِّرت المواثيق، وجابت وفود المصالحة أرجاء ليبيا لتطفئ نار الفتنة، ومن أهمها الميثاق الوطني الذي أبرمته الهيأة التأسيسية بمدينة بنغازي بموافقة الوفد الدرناوي بالنيابة عن المنطقة الشرقية، والذي تمخَّض عنه (ميثاق الحرابي) الشهير تلبية لنداء الأمير إدريس السنوسي:

بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..

أما بعد فإننا نحن عُمد ومشايخ قبائل الحرابي وأعيان مدينة درنة المجتمعين في المؤتمر الوطني المنعقد بمركز جمعية عمر بدرنة يوم الخميس 15 جماد الأولى 1365 هجري، الموافق 18 أبريل 1946 م لدرس الموقف الحاضر قد قررنا ما يأتي:ـ

أولاً ـ إقرار الميثاق الوطني الذي أبرمته الهيأة التأسيسية بمدينة بنغازي بموافقة الوفد الدرناوي بالنيابة عن منطقة ليبيا الشرقية.

ثانيًا ـ عملاً بنداء سمو الأمير المعظم السيد محمد إدريس المهدي السنوسي نتعهد جميعنا بإيقاف كل خصومة وكل نزاع مهما كان نوعه فيما بيننا، فلا نسمح بإثارة فتنة قديمة أو جديدة، ولا نسمح بالمطالبة بحق قديم، سواء كان ثأرًا أو دية قتل أو دية جرح أو حقًا عقاريًّا أو غير ذلك، رغبة منا في جمع الكلمة وتأليف القلوب وتوحيد المجهودات وتوجيهها متظافرة متحدة إلى قضية البلاد السياسية وحدها حتى يتقرر مصير البلاد وتؤسس فيها حكومة وطنية وتنظم أمورها وتستقر أحوالها.

ثالثًا ـ عندئذٍ فقط يجوز لكل صاحب حق مشروع أن يطالب بحقه بالوسائل المشروعة وبواسطة حكومة البلاد الشرعية. 

رابعًاـ ليس معنى هذا التعهد أننا ندعو أصحاب الحقوق إلى التنازل عن حقوقهم ولكننا نطالبهم بإيقاف المطالبة بها موقتًا ليتفرغوا للمطالبة بحق الأمة العام الذي له من الأهمية الكبرى ما يجعله أحق بالتقديم على حقوق الأفراد والعائلات والقبائل.

خامسًاـ كل مَن يخالف هذا التعهد يعتبر معرقلاً لمساعي الأمة ومثبطًا لجهادها الذي نرجو أن يكلل بالنجاح التام في إحراز الحرية والاستقلال إن شاء الله.

ولما كانت هذه القرارات قد اُتُخذت بالإجماع فإننا نوقِّع على هذه الوثيقة بإمضاءاتنا الآتية:

ورقة واحدة كانت كفيلة بأن توقف نهرًا من الدماء، وأن تجعل هذا الشعب ينال استقلاله الذي كان شبه مستحيل، وأن يبني دولته التي اعتبرها الكثير من المحللين في ذاك الوقت معجزة، والمفارق أن أغلب المُوقِّعين على هذه الورقة وقَّعوا ببصمة إبهامهم ( كانوا أميين) لكن الحكمة لا تؤتيها الجامعات، ولا الشهادات الأكاديمية، ولا الكتب، الحكمة هبة العقل، وحصيلة التجربة، وروح سامية تنبذ العنف والحقد والإقصاء كطريق إلى المستقبل.

ونتساءل ماذا فعل الآن مَن صدعوا رؤوسنا بسيرهم المهنية وشهاداتهم العليا في دعايات ترشيحهم أنفسهم للمؤتمر الوطني والحكومة؟ ماذا قدموا؟ سوى قانون للعزل السياسي، ينضح بالحقد سيجهض كل تفكير في المصالحة الوطنية، ويعرقل مساعي الأمة ويثبط جهادها من أجل النجاح التام في بناء ليبيا.

الحكمة يؤتيها الألم، ومَن يقاسي الألم سيسعى لأن لا يتكرر، لذلك نرى مَن تضرروا فعلاً من هذا النظام، من المثقفين الذين سُجِنوا لسنين طوال، هم الأكثر دعوة للتسامح.

بعد هذا الميثاق لم تسجل حالة اعتداء أو اغتصاب للحق باليد، رغم أن الجراح كانت مازالت مفتوحة. احترم الجميع الميثاق

بعد هذا الميثاق لم تسجل حالة اعتداء أو اغتصاب للحق باليد، رغم أن الجراح كانت مازالت مفتوحة. احترم الجميع الميثاق، على أن تؤجل المطالبة بالحقوق حتى يتقرر مصير البلاد وتستقر أحوالها، ولأن الصلح والمسامحة كانا من ضمن كوامن الشخصية الليبية، لم تكتظ المحاكم بعد قيام الدولة. فكان النسيان وصفة التقدم، وكان الشعار الذي رفعه الميثاق (حتحات علي ما فات) هو حكمة الليبيين آنذاك ليمضوا قدمًا.

طُويت الصفحة المظلمة، ونظر الليبيون إلى الأمام، فنالوا أول استقلال دولة تقره منظمة الأمم المتحدة، والوطنيون الذين كافحوا من أجل نيل الاستقلال عمل معظمهم ضمن كادر الإدارة الإيطالية وتعلموا في مدارسها، لأن الوطنية والنزاهة لا تقيسها لجنة، ولا يحددها محررون لقانون عزل، لكن التاريخ وحده هو الذي يحكم.

أُقيمت دولة ليبيا، ورغم كل الارتباكات، إلا أنها حققت في زمن قياسي إنجازات مهمة، تصلح كدروس لمفاهيم مثل النهضة والتنمية والمواطنة ودولة القانون

أُقيمت دولة ليبيا، ورغم كل الارتباكات، إلا أنها حققت في زمن قياسي إنجازات مهمة، تصلح كدروس لمفاهيم مثل النهضة والتنمية والمواطنة ودولة القانون، ولو فكر أجدادنا، كما نفكر الآن، في تصفية الحسابات الماضية، لما استقلت ليبيا، ولا قامت دولتها، ولتحولت إلى ميدان حروب طاحنة، مثلما يحدث الآن، ومثل دول مازال الدم يُسفَك فيها وتُصنَّف الآن من الدول الفاشلة.

ولإنقاذ ليبيا علينا أن نستلهم وجداننا الديني وتراثنا الاجتماعي الثري.

كم نحن الآن في حاجة إلى ميثاق ليبي شامل، كميثاق الحرابي، الممهور ببصمات أنامل أجدادنا، التي تظهر كزهور أنبأت في ذلك الوقت العصيب عن بزوغ ربيع ليبي.

ذلك الربيع الذي اكتسحه خريف الاستبداد الذي بنى طغيانه على إقصاء الماضي (وتطهير البلاد من المرضى)، الذين هم كفاءات هذا الوطن، فجعل من حاضرنا زمنًا لقيطًا لا أب له، ومن مستقبلنا زمن خوف يرقبه الليبيون بفزع.