Atwasat

الغائب الأكبر عالميًا

فريد زكريا الأحد 27 يوليو 2014, 09:21 مساء
فريد زكريا

سلطت الأزمة الأوكرانية الضوء على واحدة من الفجوات الصارخة التي يشهدها العالم في وقتنا هذا، وأعني غياب أوروبا استراتيجية وثابتة العزم. فالولايات المتحدة تستطيع، وينبغي عليها، أن تكون في مكان الصدارة في الاستجابة لهذا الصراع، لكن لا يمكن أن يحدث أي شيء في واقع الأمر من دون أوروبا.

فالاتحاد الأوروبي هو أكبر شريك تجاري لروسيا وبفارق كبير عمن سواه، كما يشتري معظم إنتاج روسيا من الطاقة، وهو المستثمر الرئيس في الشركات الروسية، فضلاً عن أنه أكبر وُجهة لرأس المال الروسي. فبعض نقاد الرئيس أوباما يريدون منه أن يعنّف فلاديمير بوتين، لكن الأفعال الأوروبية هي التي سيقلق بشأنها الرئيس الروسي في نهاية المطاف.

تأمل كيف تعاملت أوروبا مع أوكرانيا. فعلى مدى سنوات، لم تستطع أوروبا أن تقرر في الحقيقة ما إذا كانت تريد تشجيع انضمام أوكرانيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي أم لا، لذا فإنها أرسلت إشارات مختلطة إلى كييف، وهو ما كان أثره الأولي أن خيّب آمال الأوكرانيين الموالين لأوروبا، وأثار غضب الروس، وأثار حيرة كل من عداهم.

في العام 2008، وبعد أن أرسلت موسكو قواتها إلى داخل جورجيا، وعدت أوروبا البلدان الواقعة على حدودها الشرقية بـ"شراكة شرقية"، لكن كما أوضح نيل ماكفارلين وأناند مينون في العدد الحالي من دورية "سرفايفل"، فإن "الشراكة الشرقية كانت مثالاً نموذجيًا يصوّر ميل الاتحاد الأوروبي إلى الاستجابة للأحداث بأن يضيف إلى السياسة القائمة إضافات طويلة المدى ذات تأثير خطابي لكنها فقيرة في الموارد".

كان الزعماء الأوروبيون قد بدأوا يتوددون إلى أوكرانيا دون أن يدركوا كيف سيُنظر إلى خطوتهم هذه في روسيا. فقد كان لدى روسيا خططها الخاصة التي ترمي إلى إقامة اتحاد جمركي، على أن يتلوه اتحاد أوراسيّ، والذي قُصد به أن يكون مقابلًا للاتحاد الأوروبي. كانت أوكرانيا ضرورية بالنسبة لخطط روسيا، وكانت تعتمد على روسيا في الحصول على غاز طبيعي رخيص. أضف إلى ذلك بالطبع أن الأوكرانيين كانوا منقسمين بشأن مسألة ما إذا كانوا يتجهون غربًا أم شرقًا.

شهدت المفاوضات بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا منعطفات على طول الخط، حيث استغرق المحامون والمترجمون سنة لصياغة النص. وبوصفه هذا التقاعس بأنه خطأ، قال وزير الخارجية البولندي رادوسلاف سيكورسكي إن "الشيء نفسه ينطبق على الاتحاد [الأوروبي] فيما يخص الفاتيكان. إن الأمور وإن كانت تمضي ببطء فهي تمضي بثقة". كانت الصفقة التي عُرضت على أوكرانيا مليئة بمطالب الإصلاح وإعادة هيكلة اقتصادها الفاسد، لكنها لم تتضمن إلا القليل من قبيل المعونات اللازمة لتليين الضربات وتحلية هذه الخطوات الصعبة. وعندما رفض رئيس أوكرانيا آنذاك فكتور يانوكوفيتش عرض أوروبا وأخذ جانب موسكو، فإنه أطلق بذلك لعبة عالية السرعة عظيمة الرهانات لم تكن أوروبا مستعدة لها أبدًا ولم تستطع الاستجابة لها.

لو كانت أوروبا تحاول نقل أوكرانيا إلى معسكرها، فإنه كان ينبغي عليها أن تكون أكثر سخاء مع كييف وأن تتفاوض بجدية مع موسكو لتخفيف شواغلها. بدلًا من ذلك، بدا أن أوروبا تتصرف وهي تكاد تكون غير واعية للعواقب الاستراتيجية المترتبة على أفعالها. ثم عندما أطلقت روسيا حملة لزعزعة استقرار أوكرانيا، وهي الحملة التي ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا، ظلت أوروبا متأخرة بخطوة، ومتنازعة داخليًا، وغير راغبة في إثبات ذاتها بوضوح وسرعة. وتلك السمات ذاتها ظلت بادية للعيان بعد إسقاط رحلة الخطوط الجوية الماليزية رقم 17.

ما زالت أمام الاتحاد الأوروبي فرصة لإرسال إشارة أوضح كثيرًا إلى أوكرانيا وروسيا والعالم، إذ يمكنه أن يطالب بأن تضغط روسيا على الانفصاليين من أجل التعاون التام مع التحقيق الخاص بالرحلة 17

ما زالت أمام الاتحاد الأوروبي فرصة لإرسال إشارة أوضح كثيرًا إلى أوكرانيا وروسيا والعالم، إذ يمكنه أن يطالب بأن تضغط روسيا على الانفصاليين من أجل التعاون التام مع التحقيق الخاص بالرحلة 17 والسماح للحكومة الأوكرانية، التي تعترف بها موسكو، بالسيطرة على أرضها في شرق أوكرانيا. يمكن للاتحاد الأوروبي أن يطرح قائمة بعقوبات محددة يتم تنفيذها إذا لم يتم استيفاء هذه الشروط في غضون فترة زمنية ولنقلْ أسبوعين.
بالإضافة إلى ذلك، ينبغي أن تعلن أوروبا عن خطط أطول مدى على جبهتين، لكي تكسب أولًا مزيدًا من الاستقلال في مجال الطاقة عن النفط والغاز الروسيين. كما يجب أيضًا على الأمم الأوروبية أن تعكس مسار الدوامة النزولية التي دامت عقدين من الزمن في الإنفاق الدفاعي التي جعلت الاتحاد الأوروبي نمرًا من ورق من منظور جغرافي سياسي. فألمانيا، على سبيل المثال، تنفق نحو 1.5 % من إجمالي ناتجها المحلي على الدفاع، وهذا من بين أدنى المستويات في أوروبا، ويقل كثيرًا عن نسبة الـ2 % التي تمثل المستهدف لكل أعضاء منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو). من الصعب حقيقةً أن تفرض على الآخرين سماع صوتك وخشيته عندما تتحدث بصوت خافت وتحمل في يدك غصين شجرة.

المشكلة الآن يجري وصفها كجبن واسترضاء أوروبييْن. وخير ما يوضح هذا هو غياب الالتحام بين البلدان الثمانية والعشرين شديدة الاختلاف أعضاء الاتحاد الأوروبي، والافتقار إلى اتجاه استراتيجي، والتوجه الداخلي الضيق الذي يأمل أن تختفي مشكلات العالم. والنتيجة هي فراغ عالمي كبير له عواقب مريعة.

إذا نظرنا إلى الوراء سنوات من الآن وتساءلنا لماذا ضعُف النظام الدولي الليبرالي المنفتح القائم على قواعد وتآكل، فربما نلاحظ جيدًا أن من بين المشكلات الخطيرة أن أقوى وحدة سياسية واقتصادية في العالم، وأعني الاتحاد الأوروبي، بسكانه الذين يفوقون سكان أميركا عددًا واقتصاده الذي يفوق اقتصادها حجمًا، كانت الغائب الأكبر على الساحة الدولية.

(خدمة واشنطن بوست)