Atwasat

الأفقي والعمودي في الاحتراب القائم حاليًا في غرب ليبيا

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 27 يوليو 2014, 04:12 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

في مجتمعات الحضارة الحديثة، أي تلك التي صهرت، عبر سيرورة تاريخية، التكويناتِ الاجتماعية الأولية القائمة على العشيرة والقبيلة والتعصب الجهوي، بحيث تشكلت تكوينات جديدة قائمة على التكوين الطبقي المرتكز على موقع كل طبقة من عملية الإنتاج الاجتماعي، تتخذ الصراعات الاجتماعية طبيعة سياسية واضحة، فخلافاتها «عمودية» وليست «أفقية»، أي أنها خلافات حول مصالح طبقية محددة يصطف حولها الناس كطبقات وأفراد، وليس كعشائر وقبائل ومدن، وحين تحتد الصراعات داخلها وتتحول إلى الاقتتال والحرب الأهلية يكون الاستقطاب في هذه الحرب عموديًا، بالمعنى المحدد أعلاه، كان هذا هو الحال في الحرب الأهلية الروسية(17-1921) بين قوى النظام الثوري الجديد وقوى النظام القديم، والحرب الأهلية الإسبانية(36-1939) بين الجمهوريين، الذين هم خليط من اليسار بتنوعاته المختلفة، والقوات التي قادها فرانكو التي تمثل اليمين. والأمر نفسه في الحرب الأهلية اليونانية(46-1949) التي كانت بين الشيوعيين والفاشيين.

أما في المجتمعات شبه التقليدية التي لم تتحدث بالكامل وظلت محافظة، إلى حد كبير، على المكونات الأولية، العشائرية والقلبية ثم الجهوية، فتتخذ الصراعات والاحترابات الداخلية طبيعة معقدة يغلب عليها الطابع الأفقي(الاصطفاف على أسس عشائرية وقبلية وجهوية) ويظل البعد العمودي خفيًا.

من هنا يكون مفهومًا اختزال الاحتراب الداخلي الجاري في القسم الغربي من ليبيا حاليًّا في مظهره الأفقي، باعتباره صراعًا على النفوذ والسلطة بين مدينتين هما مصراتة والزنتان.

لكن هذا ليس سوى مظهر.

فحقيقة الأمر أن ثمة تحالفًا تتصدره مدينة مصراتة الساحلية، مقابل تحالف مضاد تتزعمه مدينة الزنتان الجبلية.

يتكون التحالف الأول، الذي تقوده مدينة مصراتة، من مدينة مصراتة وميليشيات فصائل الإسلام السياسي، بقسمها المتطرف تطرفًا معلنًا مكشوفًا، وقسمها المتطرف تطرفًا خفيًا مموهًا. لكن مكونات هذا التحالف ليست بهذا الاستقلال الداخلي الكامل الذي يمكن أن يوحي به هذا الكلام. فالميليشيات المحسوبة على مصراتة، كمدينة، يوجد فيها نفوذ للإسلاميين بنوعيهما، والميليشيات المصنفة على أنها فصائل إسلام سياسي لا تخلو من حضور لأشخاص محسوبين على مصراتة. على حين يتكون التحالف المضاد من مدينة الزنتان وبعض المدن الأخرى الصغيرة، أو بعض ميليشيات صغيرة تابعة لبعض المدن، وبعض التكوينات العسكرية التي كانت تابعة إلى المؤسسة العسكرية قبل الأحداث التي جدت بليبيا مع 17 فبراير 2011. ويتميز هذا التحالف بأنه يخلو من نفوذ تيارات الإسلام السياسي بقسميه ويحظى بدعم التوجهات الديموقراطية التي هي غير منظمة.

فما هي أهداف كل طرف من الطرفين المتنازعين؟
للتحالف الأول هدف سياسي غير معلن(ولكنه واضح) يتمثل في محاولة إعاقة تكون مجلس النواب وإيقاف المسيرة نحو بناء دولة المؤسسات والقانون. والسبب في ذلك هو أن تيارات الإسلام السياسي بالذات، وبالخصوص تيارات «التطرف الخفي» لم تنل النصيب المرغوب في انتخابات لجنة الستين، الموكولِ إليها إعداد مشروع دستور للبلاد، ولا في انتخابات مجلس النواب. وبالتالي ضاعت عليها فرصة السيطرة على الدولة بشكل شرعي. فلسان حال هذا التحالف يقول: تكون لجنة الستين ومجلس النواب لنا، أو لن يكون هناك مجلس نواب، ومن ثَمَّ لا قيمة للجنة الستين. ما حرمتنا منه العملية الانتخابية نفتكُّه بـ«البندقية».

هذا هو الهدف من الحرب على مستوى التحالف في عمومه. لكنَّ ثمة أهدافًا تختص بمصراتة كمدينة، وهو أنها ترى أنها جديرة بأن تكون عاصمة للدولة بدل طرابلس، أو على الأقل «عاصمة موازية»، أي أن تكون المدينة الثانية على مستوى البلاد من حيث الأهمية، وليس المدينة الثالثة، بعد طرابلس وبنغازي، مثلما هي حاليًّا، فهي كمدينة ساحلية ذات موقع ملائم لأن تكون مركز حركة نقل جوي وبحري وبري ونشاط تجاري، وبالتالي تأخذ موقعَ صدارة في تقرير شؤون البلاد، لهذا السبب تم الهجوم المكثف على مطار طرابلس العالمي الذي من الواضح أنه هجوم يستهدف تدمير المطار بالكامل، وليس افتكاكه من المسيطرين عليه الآن، واستخدام مطار مصراتة بدلاً عنه(لا قيمة هنا للقول بأن تدمير المطار القصد منه ناحية عسكرية هي الحيلولة دون وصول الإمدادات البشرية والسوقية إلى المقاتلين المتحصنين به لأنه مطار مدني ورحلات الطيران المدنية ستتوقف بسبب خطورة الأوضاع التي تكتنفه).

في حين أن هدف التحالف الذي تقوده الزنتان هو على الضد من هدف التحالف الأول؛ حيث إنه يؤيد عملية التحول إلى بناء دولة ذات مؤسسات قوية، بالذات مؤسسات الضبط والاستقرار المتمثلة في المؤسستين العسكرية والأمنية ومؤسسة القضاء، ويدعم المسار الديموقراطي، لذا يحظى بتأييد شعبي قوي.

هذا لا يعني، بالتأكيد، أن أهل الزنتان ديموقراطيون بطبيعتهم وأهل مصراتة غير ديموقراطيين بطبيعتهم. ولكن يعني أن مصلحة الزنتان، كمدينة، لا يمكن أن تُكفل إلا في ظل دولة عصرية مدنية مستقرة، فهي مدينة لا تمتلك، بحكم الجغرافيا، مقومات أن تكون عاصمة للبلاد، أو عاصمة موازية، أو حتى عاصمة لمنطقة جبل نفوسة، فالعاصمة التقليدية لمنطقة جبل نفوسة هي غريان، كما أن محاولة فرض نفسها عاصمة لهذا الجبل بالقوة سيؤلب عليها مدن أخرى من المنطقة نفسها.

واقع الحال أن مدينة مصراتة ترى في العملية الديموقراطية سلبًا لبعض ما تعتبر نفسها جديرة به، ومدينة الزنتان ترى في الدولة الديموقراطية رعاية لمصالحها.

وإذن فالصراع الجاري حاليًّا في القسم الغربي من ليبيا هو صراع أفقي المظهر، عمودي الجوهر.