Atwasat

ترحال:القضيّة الفلسطينيّة قضيّة إنسانيّة وليست شأن المسلمين فقط!

محمد الجويلي الأحد 20 يوليو 2014, 01:33 مساء
محمد الجويلي

أنْ ينتفض العرب والمسلمون هذه الأيّام تعبيرًا عن غضبهم الشديد ممّا يحدث في غزّة وتنديدًا بعدوان دولة إسرائيل على الفلسطينيين العزل وقتلها للأطفال والنساء، دون شفقة ورحمة، أمام مرأى العالم ومسامعه دون أدنى إحساس لقادتها بالذنب في إبادة جماعيّة قد لا نجد لها نظيرًا في التاريخ البشرى إلّا ما تعرّض له اليهود أنفسهم من تنكيل وقتل وتشريد من آلة الدمار النازية العنصريّة لعقود قليلة مضت، فهو أمرٌ معهودٌ ويتكرّر منذ سنة 1948 إلى اليوم. أمّا أن تنطلق حناجر بعض اليهود مدوّية تستنكر جرائم إسرائيل في غزّة وتدافع عن الفلسطينيين وعن حقّهم في الدفاع عن أنفسهم فهو أمرٌ، وإنْ ليس بالجديد بدوره، لا يسترعي الكثير من الانتباه والتفكير في العالم العربي الإسلامي، ليس فقط لدى عامة الناس، بل لدى النخبة. بل أكثر من ذلك، لدى بعض قادة الفلسطينيين أنفسهم في غزّة الجريحة نفسها الذين يختزلون الصراع مع إسرائيل في كونه صراعًا بين المسلمين واليهود، وتبعًا لذلك عوض أن يقدّموا قضيّتهم للعالم باعتبارها قضيّة الإنسان، مهما كان لونه وجنسه ودينه، قضيّة الضمير البشري في هذا العصر، تمامًا مثلما كانت عليه قضيّة اليهود في العقد الأخير من منتصف القرن الماضي مع النازيّة، نراهم يحصرونها في زاوية المِلّة ويقلّصونها إلى مجرّد قضيّة مسلمين فقط، متناسين أنّ نسبة مهمّة من مواطنيهم، أي من الفلسطينيين أنفسهم هم من غير المسلمين: نصارى وكان منهم زعماء كبار ضحّوا مثلهم بالغالي والنفيس من أجل فلسطين، بل يهود كانوا يقطنون فلسطين منذ مئات السنين ولم يكونوا أقلّ تضررًا من المسلمين باحتلال وطنهم واغتصابه من مستعمرين جاؤوهم بالغصب والغلبة من كلّ حدب وصوب لا رابط ثقافيًّا وتاريخيًّا يصل بينهم، ما عدا رابطة الدين. يتحدّثون بسبعين لغة وينتمون إلى تسعين قوميّة وثقافة مختلفة.

ليس هنا المجال للحديث عن «شهوة التدمير» (وهو عنوانٌ لكتاب ويليام رايش فيلسوف يهودي ألماني من مدرسة فرانكفورت الشهيرة يحلّل فيه آليات العنف الأعمى في الحياة الإنسانيّة من وجهة نظر تحليليّة نفسيّة) التي تستبدّ بدولة إسرائيل، وكأنّ هذه الدولة تعيد إنتاج العنف الذي مُورس على اليهود طوال التاريخ، خاصة في أوروبا، وآخره في ألمانيا النازيّة، ليكون ضحيّته الفلسطينيون الضعفاء مثلهم مثل يهود الأمس ضحايا المحرقة الهتلريّة في عمليّة آليّة شبيهة بسلوك رجل يضطهده ربّ العمل ولا يستطيع ردّ الفعل لانعدام ميزان القوى معه، خوفًا على قوْتِه وقوت عياله، فيختزن ردّة فعله الغاضب العنيف تجاهه وعندما يعود إلى البيت مساء يحوّله عن مساره الطبيعي فيصبّ جامه تجاه زوجته وعياله، أو شبيهة بسلوك ربّ أسرة تعرّض في سنوات طفولته ومراهقته لضرب شديد ومبرح من والده دون أن يردّ الفعل لضعفه ولاستحالة هذا الردّ أخلاقيًّا ولمّا يكبر وينجب أطفالاً يذيقهم ما ذاقه من عذاب لأنّه، بكلّ بساطة، قد استبطن القمع في شخصيته ولم ينضج نفسيًّا وفكريًّا بدرجة تجعله يقيم مسافة سيكولوجيّة بينه وبين والده من جهة، وبينه وبين ماضيه من جهة أخرى. فيظلّ أسير ذاكرة صنميّة مُشكّلة من مكبوتات وعقد وغرائز عدوانيّة تدميريّة ويقع تبعًا لذلك في المحظور الكبير بأن يضطهد أطفالاً أبرياء ضعفاء لا ذنب لهم فيما اقترفه جدّهم تجاه أبيهم، وهو عملٌ جبانٌ وفي منتهى الخساسة وهو ما تقترفه في حق الفلسطينيين دولة إسرائيل، وليس اليهود في المطلق، كما يذهب ظن الكثير من العرب والمسلمين.

إنّ أكبر خطر يتهدّد الفلسطينيين، كما اليهود، هو الخلط الذي تعمّدت دولة إسرائيل، بكلّ ما أوتيت من جهد، بثّه والإقناع به بين هويّتها السياسيّة الاستعماريّة وهويّتها الدينيّة باعتبارها دولة يهوديّة وهو ما انطلى على العديد من الفلسطينيين والعرب المسلمين الذين جرّتهم إسرائيل إلى مواجهتها بالأيديولوجيا الإسلاميّة، وهو ما تسعى إليه سعيًا بتحويلها الصراع بين مستعْمَر ومستعْمِر وبين بشر يرفضون الظلم والعدوان وبشر من الظَلَمَة والمتواطئين معهم إلى صراع بين يهود ومسلمين. وإذا كانت إسرائيل تعي جيّدًا ماذا تفعل، فإنّ هذا ليس حال الكثير من أبناء جلدتنا الذين نرى البعض منهم يخرج هذه الأيّام في بعض المدن العربيّة رافعًا شعار «خيبر خيبر يا يهود جيش محمّد سيعود» ولكنّهم لا يتردّدون في الإعجاب والتنويه بمواقف بعض اليهود المناصرة لفلسطيني غزّة والمندّدة بالمجزرة التي تقترفها إسرائيل في حقّ أطفالهم ونسائهم دون أن يتجشّموا عناء طرح السؤال التالي على أنفسهم: كيف يمكن تبرير هذا الشعار الذي يرفعونه أخلاقيًّا وإنسانيًّا، وكيف يمكن أن ينظروا إلى أنفسهم في المرآة بل ينظروا في عيون هؤلاء اليهود الذين تحلّوا بالشجاعة وعرّضوا أنفسهم لسخط الكثير من أبناء مِلّتهم، بل عائلاتهم لقول كلمة الحق دون أن يشعروا، إنْ لم يكن بالخجل من أنفسهم، فعلى الأقلّ بأنّ ثمّة خطأ ما في فهمهم للقضيّة والعالم والإنسان؟

منذ بضعة أيّام وعندما بدأت الآلة الإسرائيلية تحصد الأرواح وأمام بشاعة الصور التي تناقلتها وسائل الإعلام لأطفال بُقرت بطونهم وتفحّمت أجسادهم وتشظّت رؤوسهم تدخَّل يوم 11 يوليو في برنامج إذاعي على راديو فرنسا الدولي من إعداد الصحفي الشهير جان جاك بوردان (Jean-Jacques Bourdin ) المعروف بدفاعه عن إسرائيل مواطن فرنسي يهودي قائلاً: «أنا أدعى فينسان (Vincent) يهودي الديانة ولكنّي استنكر بشدّة ما تقوم به إسرائيل من إجرام في حقّ الأطفال والنساء في غزّة هذا عارٌ على دولة إسرائيل وأنا باعتباري يهوديًّا لا يشرّفني هذا الفعل المشين»، قاطعه المذيع مرتبكًا: «أليس لإسرائيل الحقّ في الدفاع عن نفسها ضدّ الصواريخ التي تنهال عليها؟» عن أيّ صواريخ تتحدث؟ أجابه «فينسان» مضيفا وهل من مقارنة مع آلة الحرب الإسرائيليّة؟ ثمّ ماذا تريد من شعب مُستعمَر أن يفعل. أليس من حقّه أن يدافع عن نفسه بما تيسّر له من الوسائل؟ قاطعه المذيع مكيلاً له أبشع النعوت وأقذعها واصفًا إيّاه بالمزوّر للحقائق والكذّاب قبل أن يغلق في وجهه الخطّ.

انتشر هذا الحوار على نطاق واسع في الفايسبوك في فرنسا بين أوساط الجالية الإسلاميّة كما انتشر في بلدان المغرب العربي الناطقة بالفرنسيّة وكثرت التعليقات حوله بالآلاف كلّها تثني على هذا اليهودي أحدها يقول «وشهد شاهد من أهلها». ومن يكون أهل هذا اليهودي غير اليهود؟ هذا ما يقصده هذا المعلّق الواقع بدوره في فخ الفهم الخاطئ للقضيّة بحشرها في الدلالة الدينيّة وإنْ كان في الحقيقة لفينسان أهل آخرون هم أهل الحقّ سواء من اليهود أو النصارى والمسلمين أو من غير ملّتهم.

الكثير من اليهود مثل فينسان خرج في تظاهرات في شتّى أنحاء العالم تنديدًا بإسرائيل، لا سيما اليهود الأُرثوذوكس المعادون لإسرائيل بطبعهم ومن منطلق عقائدي لإيمانهم بأنّ الكتاب المقدّس يمنع اليهود من تأسيس دولة والذين خرجوا بالآلاف في معظم المدن الأميركية الكبرى تنديدًا بالعدوان على غزّة وفي ذلك عبرة لمَن يعتبر من العرب المسلمين: إنّ القضيّة الفلسطينيّة هي قضيّة إنسانيّة وليست قضيّة مسلمين فقط واختزالها في هذا البعد الأخير منذ عقدين قد جرّدها من كونيتها وأفقدها تعاطفًا دوليًّا واسعًا هي في أمسّ الحاجة إليه وألحق بها ضررًا كبيرًا نرى تبعاته اليوم، وهو ما خطّطت له إسرائيل منذ زمن طويل ونجحت فيه إلى حدّ ما. وطبعًا فإنّ ربح المعركة على المستوى البعيد يتطلّب فهم القضيّة فهمًا صحيحًا وتقديمها للعالم كما هي في حقيقتها لكسب تعاطف شعوب الأرض كلّها، بمَن في ذلك اليهود أنفسهم.