Atwasat

قانون العزل .. عَزَلَ ليبيا

سالم العوكلي الثلاثاء 15 يوليو 2014, 04:47 مساء
سالم العوكلي

عندما تحدثت مع التشيكيين، بعد عام من نهاية الشيوعية، سمعت في حديث كل واحد منهم هذه الصيغة التي أصبحت طقسية، هذا التمهيد الإلزامي لكل ذكرياتهم وكل أفكارهم، بعد هذه الأربعين عامًا من الرعب الشيوعي، أو «الأربعون عامًا المرعبة»، وعلى الأخص «الأربعون عامًا الضائعة» أنظر إليهم: لم يرغمهم أحدٌ على الهجرة، ولم يُسجَنوا، ولم يُطرَدوا من عملهم، وحتى لم يُنظر إليهم بازدراء، جميعهم عاشوا حياتهم في بلدهم وفي منازلهم وفي عملهم، وكانت لهم إجازاتهم وعطلهم وصداقاتهم وغرامياتهم، وباستخدام تعبير «الأربعون عامًا المرعبة» يختصرون حياتهم إلى مظهرها السياسي فقط.

لكن حتى التاريخ السياسي للأربعين عامًا المنصرمة، هل عاشوه حقًا كقطعة واحدة غير متميزة من الرعب؟ هل نسوا السنوات التي كانوا يشاهدون فيها أفلام نورمان، ويقرؤون كتب هربال ويترددون على المسارح الصغيرة المنشقة ويحكون مئات النكات، ويسخرون بمرح من السلطة؟

حين يتكلمون جميعًا عن الأربعين عامًا المرعبة، فهذا يعني أنهم يحولون إلى أورويلية ذكرى حياتهم الخاصة التي أصبحت على هذا النحو، بشكل استدلالي في ذاكرتهم ورؤوسهم، ضئيلة القيمة وحتى ملغاة تمامًا «الأربعون عامًا الضائعة».

لم أجد أفضل من هذا الاقتباس للروائي المفكر ميلان كونديرا يختصر المظهر الاجتماعي النفسي بعد انحسار الاستبداد ويعكس في الوقت نفسه حالة مكبوتة من الاستبداد تجاه الزمن والذات الاجتماعية عبر مصادرة الواقع الاجتماعي وحراكه لصالح مظهره السياسي فقط، أو بمعنى آخر تذويب الحياة الاجتماعية بكل تفاصيلها في الشكل السياسي لمرحلة ما، شهدت ليس فقط انتهاك جيل بأكمله ولكن ظهور أجيال متعاقبة.

هكذا يختصر أغلب الليبيين الآن تاريخهم لأربعة عقود في مظهر النظام والنظام فقط، ليصبح كل مَن عمل في هذه العقود في الدولة هو جزء من النظام

هكذا يختصر أغلب الليبيين الآن تاريخهم لأربعة عقود في مظهر النظام والنظام فقط، ليصبح كل مَن عمل في هذه العقود في الدولة هو جزء من النظام، وربما سيتطور الأمر إلى أن كل مَن عاش في هذه العقود يكون محسوبًا على النظام. وهكذا تختزل حياة شعب بأكمله في واقعها السياسي، وهي مصادرة تتجاوز أي تعريف محتمل للاستبداد.

يحيلنا هذا التصور للحركة التاريخية إلى قانون العزل السياسي، وحقيقة لم يشهد التاريخ البشري حالة إقصاء بهذا الحجم، خصوصًا عندما يتم تحت مصطلحات غير محددة: ما هو المقصود بالنظام؟ وهل ثمة تفريق بين الدولة والنظام؟ خصوصًا أن هذا القانون يعتبر حتى مَن تقلدوا مناصب إدارية أو تقنية أو فنية تخص حياة الناس اليومية أو كانوا ضمن نسيج التكنوقراط الذين جعلوا الحياة تستمر طيلة هذه (الأربعين سنة الضائعة) يعتبرهم أزلامًا.

وتغدو المصادرة الشاملة متعلقة باصطلاح غامض ومرن لم يتم تعريفه أو بالأحرى لم تكن هناك رغبة في تحديده، وهذه إحدى سمات النظم الشمولية المستبدة التي تستخدم لافتات لغوية جاهزة وغامضة لإقصاء أكبر قدر من البشر، بل وتستخدمها في قراءة النوايا والمشاعر، والأنكى استخدامها في محاكمة حتى الموتى.

عبر هذا القانون تُنصب محكمة شاملة ، متهموها شعب بأكمله، محكمة دون قاضٍ، ودون محامي دفاع، ودون شهود، ودون حاجب، ودون حتى مقر، وتحكم غيابيًّا على عشرات الألوف دون أن تتاح لهم فرصة الدفاع عن أنفسهم، بل وتحكم على أولادهم وأحفادهم الذين تضرس أسنانهم دون أي تأكيد على أن أباءهم أكلوا الحصرم.

في هذه الحالة ليس المقصود بالمحكمة مؤسسة قانونية عملها محاكمة الذين خرقوا القوانين، إنما هذه المحكمة تمثل فقط القوة التي من حقها أن تحاكم، قوة السلاح الذي أصبح هوية الثوار الجدد، أو قوة حزب طالما جعل العدالة جزءًا من اسمه يقتات على شرعية موقتة كي تجرف مَن يهددون أجندته الخاصة جدًّا.

هذه القوة هي فقط التي تعطي هذه المحكمة شرعيتها مثلما كانت تستقي محاكم القذافي قوتها من شرعية الاستيلاء على السلطة ومن شرعية اللجان الثورية المسلحة التي كانت تتغنى بالوطن وهي تعيث فيه خرابًا. هنا التاريخ لا يعيد نفسه ولكنه يستنسخ نفسه.

المحاكمة المقامة بشرعية القوة هي دائمًا مطلقة، ولا تختص بأفعال أو جرائم محددة «سرقة، اغتيال، اغتصاب، اختلاس..إلخ» إنما بشخصية المتهم أو بهويته، بل ولا تعطي المجال لإمكانية التقادم، فالماضي البعيد يظل حيًّا كحدث اليوم، وحتى عندما تموت فإنك لن تفلت منه، «ثمة جواسيس في المقبرة»، كما يقول كونديرا.

إذًا هي محاكمة تجعل من سيرة الشخص، مهما كان، سيرة جريمة، طالما أنه عاش هذه الحقبة. ولا خلاص من هذا الحكم سوى أن تكون خارج مكان وزمن هذه الحقبة.

تحدث المفكر عزمي بشارة، في صدد حديثه عن الربيع العربي، عن خصوصية الثورة الليبية، فقال: «إن الثورات العنيفة قد تجتث النظام من جذوره لكنها لا تقود أبدًا إلى ديمقراطية»، واستفزني كلامه آنذاك، لكن هذا القانون يؤكد صدق كلامه، وبالتالي من الممكن أن يشفي مقترحو هذا النظام غليلهم، لكن على حساب أي حلم بالديمقراطية أو بليبيا دولة القانون والحقوق والمواطنة.

سيكون أهم إنجاز للبرلمان القادم إلغاء هذا القانون واستبدال ميثاق شرف وطني على أسس من المصالحة والعدالة الانتقالية به.

وسيشكل هذا الميثاق البنية التحتية لأي حوار مجتمعي نسعى إليه، فالدولة تبنيها القرارات الصعبة وليست القرارات السهلة النابعة من غرائز الانتقام وتصفية الحساب .