Atwasat

الهوية وليس الأيديولوجية هي التي تحرك العالم

فريد زكريا السبت 05 يوليو 2014, 05:54 مساء
فريد زكريا

يعتبر الرابع من يوليو بالنسبة لي واحدًا من الأعياد الأميركية الخاصة التي لا هي احتفالات بدين ولا بعرقية ولا بطائفة، بل احتفالات بالحرية وبهوية أميركا الوطنية الفريدة القائمة عليها. لكننا نرى في هذه الأيام وفي كل أنحاء العالم صعود نوع آخر من القومية، قومية يمكن أن تكون سوداء وتقض المضاجع.

ففي الانتخابات التي أُجريت مؤخرًا لاختيار أعضاء البرلمان الأوروبي، حققت الأحزاب القومية والشعبوية بل والكارهة للأجانب أداءً جيدًا للغاية، حيث تفوَّق حزب الاستقلال البريطاني على كل الأحزاب العريقة هناك، كما فاز حزب الجبهة الوطنية الفرنسي بسهولة في مواجهة الحزب الاشتراكي الحاكم.

أما في اليونان، فقد فاز حزب «الفجر الذهبي» شبه الفاشي بنصف مليون صوت انتخابي، مما يمنحه مقاعد في البرلمان الأوروبي لأول مرة.

فسّر كثيرٌ من المعلقين صعود هذه الأحزاب على أنه إحدى تبعات الركود الاقتصادي الشديد والانتعاش البطيء اللذين ما زالت أوروبا مبتلاة بهما. لكن هناك أنماط تصويت مماثلة يمكن أن نلاحظها في بلدان تشهد ازدهارًا اقتصاديًّا مثل النمسا والدنمرك وهولندا وفنلندا والسويد. والأحزاب التي تحقق أداءً جيدًا لا تستند في أجنداتها إلى الاقتصاد بل إلى الهجرة ومظاهر القومية الأخرى.

نرى في هذه الأيام وفي كل أنحاء العالم صعود نوع آخر من القومية، قومية يمكن أن تكون سوداء وتقض المضاجع.

نرى في هذه الأيام وفي كل أنحاء العالم صعود نوع آخر من القومية، قومية يمكن أن تكون سوداء وتقض المضاجع. يمكنك رؤية هذا الصعود للقومية لا في أوروبا وحدها بل حول العالم. ولتنظر إلى خطة رئيس الوزراء الياباني شينزو أبي، الرامية إلى إعادة تفسير دستور بلاده المناصر للسلم. وهناك زعماء مثل فلاديمير بوتين في روسيا ورجب طيب أردوغان في تركيا وشي جين بينغ في الصين جعلوا من استنهاض الحس القومي جزءًا من صميم أجندتهم ورسالتهم إلى جماهيرهم.

لا شك أن هناك قومية صحية غير مرضية، وغالباً ما كانت هذه جزءًا من اتساع الحرية والديمقراطية.

فالبريطانيون والأميركيون يفخرون بأن بلديهما يجسدان قيمًا عزيزة عليهم. ويفخر البولنديون والأوكرانيون بكفاحهما من أجل الاستقلال والنجاح. لكننا نشهد اليوم في ما يبدو نوعًا مختلفًا من القومية في غالبية الأحوال، وهو نوعٌ قائمٌ على الخوف والقلق وانعدام الشعور بالأمن. هذا النوع من القومية هو -كما نوّه الفيلسوف إيزايا برلين- كغصين الشجرة الذي تثنيه، فيرتد راجعًا بقوة دائمًا.

فلماذا يحدث هذا الآن؟ أحد التفسيرات يقول إنه فيما تتسارع خطى العولمة والثورات التكنولوجية وتُحدث تحولاً في العالم، ينتاب الناس شعورٌ بعدم الارتياح لوتيرة التغيير هذه، ويبحثون عن شيء يمكنهم التشبث به كمصدر يخفف همومهم ويشعرهم بالاستقرار. فإذا كانت الصلة أقوى ما تكون على مستوى الأمة، تحدث طفرة في القومية. لكن إذا كان المشروع القومي هشًّا أو ينظر إليه كشيء فاقد للمشروعية، فعندئذٍ ترى التأثير من نصيب قوى أقدم وأعمق. فمن كتالونيا إلى اسكوتلاندا إلى الشرق الأوسط، اكتسبت الهويات دون الوطنية معنى جديدًا وأهمية ملّحة.

إنه خليطٌ غريبٌ من انعدام الأمن وتأكيد الذات. فالناس يقلقهم أن مجتمعهم آخذٌ في التغير تمامًا، وأنهم يخضعون لحكم قوى شاسعة ونائية -سواء أكانت هذه القوى هي الاتحاد الأوروبي أم صندوق النقد الدولي أم الحكومة الفيدرالية في واشنطن- تتجاوز حدود سيطرتهم، ومن قِبل أشخاص لا يشتركون معهم في قيمهم.

وفي الولايات المتحدة نرى نظيرًا لذلك، حيث يتفق صعود حزب الشاي مع هذا النمط، فبعد بحث مكثف، انتهت الباحثتان فانيسا ويليامسون وثيدا سكوكبول إلى أن الهجرة الوافدة هي إحدى القضايا المحورية -ربما القضية المحورية الوحيدة- بالنسبة لأعضاء حزب الشاي، وهو ما أكدته خسارة إريك كانتور، زعيم الأغلبية في مجلس النواب، في الانتخابات الأولية التي خاضها.

يقول مايك هاكابي وغلين بيك وآخرون كثيرون ممَن ينتمون إلى اليمين: «لم أعد أميّز بلدي»، وهذه الكلمات نفسها يمكن أن تتردد على لسان كل واحد من أولئك القوميين الأوروبيين الذين فازوا في الانتخابات التي أُجريت في مايو.
في عصر العولمة، تخوض النخب مناقشات تدور حول الأيديولوجية السياسية (توسيع دور الحكومة، تقليص دور الحكومة)، لكن القوة المنطلقة من القاعدة التي يبدو أنها تحرك العالم هذه الأيام هي الهوية السياسية كما قال صمويل هنتنغتون منذ سنوات كثيرة. فالسؤال الذي يحرك مشاعر الناس بقوة هو: «مَن نكون؟»، بل وما ينذر بالسوء بدرجة أكبر هو سؤال: «مَن لا نكون؟» حتى في أميركا، حتى في الرابع من يوليو.

(خدمة واشنطن بوست)